قد يعتقد البعض أن الحراك السياسي في دمشق يقتصر على الاجتماعات والمؤتمرات وجلسات النقاش التي تعقدها القوى الوطنية الداخلية لمناقشة المشهد السوري من مختلف جوانبه، إلا أن هناك أيضا حراكاً إقليمياً ودولياً لا يقل أهمية عن الداخلي، إذ يتكامل الاثنان في مسار سياسي يجري هندسته بهدف الوصول إلى سوريا جديدة.
واقع الحال يشير إلى أن الحراك الإقليمي والدولي تجاه دمشق يبعث برسائل إيجابية، ويشكل ركيزة أساسية لتحقيق الانتقال السياسي الذي يترقبه السوريون. غير أن التحدي الأبرز يكمن في مدى قدرة الأطراف الإقليمية والدولية التي تزور دمشق وتلتقي بالإدارة السورية الجديدة على تعزيز رؤية سياسية تتماشى مع تطلعات السوريين. وفي هذا السياق، من الضروري ألا يتمحور التعامل الدولي حول ممارسة الضغوط على الإدارة الجديدة بقدر ما يجب أن يركز على تعزيز التشاركية السياسية، وتوحيد الرؤى بين القوى السياسية الداخلية والإدارة الجديدة، بدعم من الأطراف الإقليمية والدولية.
الحراك الحالي دون مستوى التوقعات
تيارات سياسية وأحزاب ومنظمات مدنية ترى أن الحراك السياسي الداخلي لم يرقَ إلى مستوى تطلعات السوريين، كما أن هناك دوراً يجب أن تضطلع به القوى الإقليمية والدولية لتعزيز هذا الحراك، وضمان تفاعل القوى الداخلية وتوجهاتها السياسية مع الإدارة الجديدة. فبحسب مراقبين، تبدو الإدارة الحالية بعيدة عن غالبية السوريين وتوقعاتهم لسوريا الجديدة، خاصة أن الرئيس المؤقت للبلاد شدد في أكثر من مناسبة على وجود تحديات ينبغي تجاوزها قبل الوصول إلى دستور جديد وإجراء انتخابات رئاسية وفق قواعد واضحة، وهو ما قد يستغرق خمس سنوات لتحقيقه.
في هذا الإطار، يؤكد الحقوقي فاروق الحريري، عضو منظمة المحامين العرب، أن الحراك السياسي في سوريا يجب أن يتبلور بما يتناسب مع تطلعات السوريين، مشددًا على ضرورة أن تنتهج الإدارة الجديدة مبدأ الشفافية في الطرح السياسي، أي وضع إطار قانوني واضح يضمن حقوق جميع السوريين. ويضيف: “لا شك أن الحراك السياسي الخارجي مهم للغاية في هذا التوقيت، لكنه ليس كافياً، إذ يبقى الحراك الداخلي أكثر تأثيراً وعمقاً، وهو الذي يُبنى عليه لإيصال السوريين إلى دولتهم التي ينشدونها”.
ويرى الحريري أن السوريين لا يمتلكون رفاهية الوقت، وأن الأولوية يجب أن تكون لإنجاز المؤتمر الوطني، وتحديد المسار الدستوري الذي يضمن حقوقهم السياسية. كما يشدد على أهمية وضع محددات قانونية تنظم المسارات السياسية المختلفة، سواء المؤتمر الوطني أو الدستور أو الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. وبينما يدرك حجم التعقيدات التي تحيط بالمشهد السوري، يؤكد أن هناك أولويات يجب أن تلتفت إليها الإدارة الجديدة، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي. فإلى جانب المسألتين، يظل الهاجس الأمني أحد أبرز القضايا التي تشغل السوريين، وهو ما يتطلب تسريع جهود تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي. وبحسب رأيه، ينبغي أن يكون هدف أي حراك سياسي داخلي أو خارجي هو بناء سوريا ديمقراطية تعددية، تحترم إرادة السوريين.
أولويات الحراك السياسي في سوريا
عند التمعن في المشهد السوري، تتضح التحديات الكبيرة التي تواجهه. لكن وفقاً للناشطة المدنية وسيمة مثلج، فإن الحراك السياسي، لا سيما في دمشق، يحتاج إلى أن يكون أكثر تأثيراً وفاعلية، مع تعزيز المشاركة الشعبية في أي حوار سياسي داخلي.
تقول وسيمة: “نعم، هناك حراك سياسي في دمشق، لكنه يجب أن يتمحور حول هموم السوريين الأساسية. علينا كمجتمع مدني كسر العقبات التي تحول دون وضوح الرؤية السياسية لغالبية السوريين، وهذا ما نعمل عليه حالياً من خلال تعزيز التواصل مع مختلف التيارات السياسية داخل دمشق وخارجها، بهدف توحيد الرؤى بشأن المرحلة المقبلة”.
وتضيف: “لا شك أن الطريق أمامنا طويل، لكننا كسوريين تخطينا العائق الأكبر بسقوط الأسد، والآن أمامنا فرص يجب استثمارها بحكمة لتعزيز الوعي السياسي، خاصة في ظل انشغال الغالبية بالهموم الاقتصادية والمعيشية، وهو ما يستلزم بذل جهود إضافية لإشراك السوريين في رسم مستقبلهم السياسي وتحديد شكل دولتهم الجديدة”.
اليوم، يعلّق السوريون آمالهم على مسارين: خارجي، يتمثل في جهود الإدارة الجديدة للتواصل مع القوى الإقليمية والدولية بهدف رفع العقوبات عن سوريا، وتحفيز الاستثمار الاقتصادي لتحسين الوضع المعيشي؛ وداخلي، يرتكز على الحراك السياسي الجاري، والذي يجب، وفق رأي الكثيرين، أن يكون أداة للتواصل مع الإدارة الجديدة من أجل تحقيق شراكة حقيقية بين الشعب وقيادته. بهذه الطريقة فقط يمكن ربط المسارين الداخلي والخارجي، وصولًا إلى سوريا ديمقراطية تعددية تعبر عن تطلعات جميع السوريين.
في ظل هذه التطورات، يبقى الحراك السياسي في دمشق بحاجة إلى مزيد من الجهود ليحقق الأهداف التي ينتظرها السوريون. فالطريق نحو سوريا جديدة لن يكون سهلًا، لكنه يتطلب رؤية سياسية واضحة، وإرادة جماعية تتجاوز المصالح الضيقة نحو مشروع وطني شامل. وبينما تظل التحديات قائمة، فإن الفرصة ما زالت متاحة لإعادة رسم ملامح المستقبل، شريطة أن يكون الحراك السياسي أكثر شمولًا وتشاركية، مستندًا إلى مطالب الشعب وتطلعاته نحو دولة ديمقراطية تعددية تضمن حقوق جميع مكوناتها.
عمار المعتوق-دمشق