بقلم: فراس قصاص
لم يكن اشتعال الثورة في سورية في آذار من عام 2011 صدفة بل كان حصيلةً لتراكم كمّي و نوعي لمتغيرات أصابت العالم قبل أن تؤثر في وعي السوري الذي أصابته من حيث إحساسه بموقعه و إحداثيات وجوده، ومن ثم بممكناته، بما جعلته يؤمن باستحالة إلحاق الهزيمة به من قبل السلطة المستبدة، لقد فعل التطور الذي أصاب البنى المادية المنتجة والمتحكمة بطبيعة العلاقات المجتمعية في العالم فعله التاريخي بإنسان المنطقة المتأثرة بالظاهرة العربية/الاسلامية ليجعله موقنا بالضعف الطارئ الذي أصاب آليات السيطرة على الوعي العام و ميكانزمات كبح التواصل والتفاعل الحر بين الناس الذي ينهك المجتمع، تلك الآليات التي امتلكتها السلطة الأسدية المستبدة طوال عقود سيطرتها على الحياة و المشهد العام في البلاد.
لذلك عندما انطلقت الاحتجاجات في سوريا كانت بحق نقطة تحوّل تاريخية في مسار الدولة و مجتمعها على حدّ سواء، تفاعلت فيها ثورة الشعب السوري مع الإقليمي والدولي فأثّرت و تأثّرت بهما إلى حدّ بعيد لقد كانت على الحقيقة تعبيراً عن حركة تاريخ كلي للسوريين و بداية لصيرورة جديدة لم تترك تأثيرها فقط على وضع البلاد بل تجاوزته لتترك تأثيرها في محيطها القريب و البعيد.
اقرأ/ي أيضاً: انتفاضة قامشلو… شرارة الثورة السورية الأولى
لقد أصابت سوريا منذ ذلك التاريخ عديداً من التغييرات العميقة و العنيفة وصلت إلى حدّ إعادة هيكلة جوهر و طبيعة وجودها برمّته، إذ كشفت ثورة شعبها بتداعياتها الصعبة والموجعة عن أزمة النظام المعرفي الذي يحكم الشرط البشري في سوريا، أوضحت أن السوريين لا يزالون يرون أنفسهم والآخر، خارج منطق الاعتراف والتسامح في أضيق حدوده، بمنطق ينتمي إلى تحديدات اختلاف موقفهم من السماء، بحيث ينعكس على أنماط تفاعلهم مع الاجتماع السياسي بشكل يغلب عليه التناقض و التعارض، كما أظهرت الثورة السورية في ذات السياق هشاشة تجربة الدولة في سورية وعدم استجابتها للتعقّد السوسيولوجيالذي يصف المجتمع السوري، وأيضا إلى أي حدّ بلغ تاثير العقود الستة الأخيرة من حكم البعث على الشخصية السورية، تلك التي أرست مسلمات عامة في وعي السوريين عن شكل الدولة و طبيعة العلاقة بينها و بين المجتمع، لدى داعمي نظام الأسدية كما لدى أولئك الذين عارضوا وثاروا ضد نظامه على حدّ سواء ..مسلمات ترى، مثالا لا حصرا، في شكل الدولة اللامركزي شرذمة و تقسيما وخرابا .
و لأن الأزمة التي كانت تعاني منها سوريا قبل الثورة بهذا العمق و تلك الجذرية لذلك فإن الحديث عن انهيار شامل وكلّي لأُسس النظام القديم حتى بعد سقوطه المادي يبدو حديثاً رغبوياً مجانباً للصواب متعارضا مع الواقع، فأزمة الاستبداد ثبت أنها تركن في الأعمق من بنية الوجود السوري، تطال ما هو ثقافي و متجذر في المجتمع، حيث الشرط الثقافي المعرفي الديني القروسطي أسهم في إنتاج شرط الاستبداد السياسي الذي اكد بدوره هو الآخر، الشرط الثقافي و أعاد تجديده و إنتاجه ..على ذلك فإن سقوط النظام السابق و كسر هذه الدائرة المغلقة لن يوصل السوريين بسهولة إلى نهاية مسار ثورتهم و لن يحقق أهدافها إلا بالمعنى المباشر و الجزئي و القصير للكلمة ..اذ سيطلق ذلك السقوط جدلية صراع جديدة، صيرورة طويلة و معقدة و صعبة حتى تتحقق أهداف الثورة السورية وتنتصر رهاناتها ..وإلى ذلك الحين سيستمر تعرض البلاد لهزات عنيفة و ستنوس الأوضاع فيها بين مدّ و جزر وسيعاني فيها السوريون إلى وقت طويل.
و بالطبع لان سوريا لا تعيش بمفردها وهي كما أي ذات دولتية تتاثر بالموضوع الإقليمي و الدولي، وهي في الأوضاع التي عانت فيها منذ عام 2011 أصبحت جسما رخواً وموضوعا لتدخل أكبر وأوسع من قبل دول إقليمية و أخرى ذات تأثير دولي، عقد من المشاكل التي تعانيها وعطل التحوّل السوري عن أن يكون منتجاً لتأثير دينامياته الذاتية فقط طوال 14 عاما. ولم تزل حتى الآن العوامل الإقليمية تحدٍّ من إنتاج آليات ذاتية لمعالجة الوضع السوري و تعطيل الدفع به نحو التوازن الذاتي الذي يتطلع إليه السوريون.
اقرأ/ي أيضاً: المرأة السورية.. نضال متواصل في مواجهة الظلم والاستبداد
إلا أنه رغم المنظور أعلاه ورغم التحديات و الصعاب التي تتوالد في مواجهة الحال السوري ، تظل آفاق التعاطي مع هذه التحديات تتطلب فهماً دقيقا للعمل تبعا لضرورات مرحلية ذات قيمة قصوى من قبيل تحقيق العدالة الانتقالية وضرورة محاسبة المسؤولين المباشرين و الرئيسيين عن الخراب و الانتهاكات التي ضربت حياة السوريين منذ عام 2011 و حتى وقت سقوط النظام السابق و ما بعد سقوطه، سيما بعد المجازر المروّعة التي ارتُكبت في مناطق الساحل السوري، من أجل تحقيق عدالة شاملة. وإعادة اعتبار لدور الدولة بوصفها حامية لمواطنيها دون النظر إلى منبتهم الإثني أو الديني والمذهبي و من ثم العمل على إعادة بناء المؤسسات بتطوير بنية تحتية سياسية وإدارية قادرة على دعم وإطلاق مشاركة واسعة في صياغة النموذج الجديد للنظام السياسي وبناء صيغة تعددية للبلاد. وإن يتم ذلك في سياق الحدّ من التدخلات الخارجية التي تلوي على الهيمنة و على نقل المشاكل والعقد الخاصة بالخارج إلى الداخل السوري.
على أن تحقيق ذلك بوصفه المقدّمة اللازمة للعبور في البلد إلى حيث يريد السوريون أمر لا تزال تعترضه عوائق تبدو و كأنها هيكلية، تمظهرت أخيراً في حصول ممانعة لتصويب مقاربات نظام الأسدية الرئيسية الخاصة بشكل الدولة و تعريفها و هويتها من قبل الحكومة الحالية التي لا تزال تصرّ على العمل وفق ما كان يمثله النظام السابق من فوات قيمي و موضوعي و حقوقي، فيما يخصّ معالجة شؤون الدولة ذات التركيبة المتعددة واحترام حقوق إنسانها ..الأمر الذي لم يزل يشي و يؤشر إلى مسار طويل و صعب لتحقيق أهداف الثورة السورية العظيمة التي نحتفل اليوم بذكرى اشتعالها الرابع عشر.
فراس قصاص
سياسي سوري ورئيس حزب الحداثة و الديمقراطية لسورية