بعد سنوات من الحرب والمعاناة، يبدو أن سوريا في مرحلة حاسمة تتطلب بذل جهد حقيقي لتحقيق السلام والاستقرار الدائم. في هذا السياق، أصدرت سلطة دمشق مؤخرًا إعلانًا دستوريًا وقّع عليه أحمد الشرع، رئيس سلطة دمشق، عقب تشكيل لجنة صياغة الدستور، الأمر الذي لاقى رفضًا واسعًا من قبل العديد من القوى السياسية والمكونات المجتمعية في سوريا، والتي تعتبر أن هذا الإعلان لا يعكس الواقع السوري المتنوع ولا يلبي تطلعات الشعب السوري.
وفي هذا التقرير، سنتناول تحليلًا معمقًا للمسار الذي اتّبعته لجنة صياغة الدستور، استناداً إلى آراء الحقوقيين والساسة، وذلك من أجل إلقاء الضوء على أبرز الإشكاليات القانونية والسياسية لهذا الإعلان الدستوري وأثره على مستقبل سوريا.
التشكيل الأحادي: إقصاء التعددية السورية
جوان عيسو، المحامي المختص في المواضيع القانونية من مدينة رأس العين، يرى أن إعلان الدستور الجديد كان نتيجة لتشكيل اللجنة بطريقة أحادية، حيث تم اختيار الأعضاء بشكل لا يعكس التنوع السوري الفعلي، سواء من حيث التمثيل الجغرافي أو التمثيل الثقافي.
وأشار عيسو إلى أن مؤتمر الحوار الوطني الذي أُقيم في دمشق كان بداية هذه العملية، لكن التنوع السوري لم يكن ممثلًا بالشكل الكافي، حيث تم إقصاء مكونات مهمة من هذا الحوار، مما جعل المؤتمر خطوة غير ناجحة. ووصفه بأنه “مؤتمر لم يعكس التنوع السوري بالكامل” وأن “الخطوات التالية” التي تم اتخاذها كانت منحازة سياسيًا ولم تُسهم في إيجاد حلول شاملة للأزمة السورية.
التسرع في صياغة الدستور: غياب التحليل العميق للواقع السوري
ومن أبرز الإشكاليات القانونية التي أشار إليها عيسو هي التسرّع في صياغة الدستور دون أن يتاح وقت كافٍ للبحث والتشاور مع الأطراف السورية كافة.
ورأى عيسو أن صياغة الدستور تحتاج إلى فترة أطول بكثير لفهم الواقع السوري المعقد من خلال زيارة جميع المناطق والاستماع إلى آراء السوريين في المحافظات المختلفة، وهو ما لم يحدث.
عيسو أضاف أن الاستعجال في إقرار هذا الإعلان الدستوري قد أدى إلى وجود ثغرات قانونية واضحة، أبرزها مسائل في الحقوق السياسية والحقوق الاجتماعية للأقليات، وكذلك الحقوق الثقافية مثل اللغة الكردية، والتي تم إقصاؤها تمامًا في الدستور، إضافة إلى عدم وضوح صلاحيات الرئيس بشكل يتناسب مع مبادئ الديمقراطية التعددية.
السلطات الواسعة للرئيس: العودة إلى النظام المركزي
ومن الأمور التي أثارها عيسو كانت صلاحيات الرئيس في هذا الإعلان الدستوري، التي اعتبرها غير متوازنة وتعكس استمرارية للسياسات المركزية للنظام البعثي. حيث تم منح الرئيس صلاحيات واسعة، مما يهدد بعودة النظام المركزي بشكل قوي، ويمنع في الوقت ذاته من تحقيق اللامركزية التي يطالب بها الكثيرون في سوريا.
التحديات القانونية الأخرى: إقصاء المكونات الثقافية واللغوية
أحد القضايا الجوهرية التي طرحها عيسو هو عدم الاعتراف بحقوق المكونات المختلفة في سوريا، مثل الكرد، السريان، التركمان وباقي المكونات. وأوضح أن الإعلان الدستوري لم يتطرق بشكل صريح إلى حقوق هذه المكونات، بل تجاهلها تمامًا، مما قد يؤدي إلى زيادة التوترات الطائفية والعرقية في المستقبل.
كما أشار إلى أن اللغة الرسمية في الدستور ظلت العربية فقط، مما يعكس إقصاءً للغات الأخرى مثل اللغة الكردية، التي تمثل جزءًا هامًا من هوية العديد من السوريين.
الدعوة إلى حوار شامل: رؤية مجلس سوريا الديمقراطية
من جانبه، خبات محمد، عضو الهيئة الرئاسية في مجلس سوريا الديمقراطية، كان أكثر انتقادًا لمسار العملية السياسية الحالية، حيث اعتبر أن إعلان الدستور جاء نتيجة لفشل في إشراك جميع القوى الوطنية في العملية السياسية.
وأكد محمد أن مجلس سوريا الديمقراطية لطالما دافع عن سوريا موحدة، ولكن في إطار ديمقراطي تعددي يضمن الحقوق المتساوية لجميع مكونات الشعب السوري.
ويقول محمد إن مجلس سوريا الديمقراطية يؤمن بضرورة أن يكون الدستور الجديد مبنيًا على اللامركزية، بحيث يضمن حقوق جميع الأطراف، ولا سيما المكونات العرقية والدينية التي كانت مهمّشة لفترة طويلة. كما أشار إلى أن الهوية الوطنية السورية يجب أن تقوم على المواطنة المتساوية، وأن تكون مظلة لجميع السوريين دون التمييز على أساس العرق أو الطائفة.
التحديات الكبيرة: الحل السلمي والانتقال السياسي
محمد أكد أن مجلس سوريا الديمقراطية يرى أن الحلّ السياسي السّلمي هو الحل الوحيد للأزمة السورية، وأن الحوار الوطني الشامل هو السبيل الوحيد لتحقيق المصالحة بين جميع الأطراف. وأضاف أن العودة إلى الاستبداد سيكون مؤشرًا خطرًا ويؤدي إلى زيادة الفوضى في البلاد، وهو ما لا يمكن السماح به في ظل الظروف الحالية.
ووفقًا لمحمد، فإن الحوار الوطني الشامل ينبغي أن يكون مفتوحًا لجميع القوى الوطنية التي تؤمن بمبدأ العدالة والمساواة. وأكد أنه في حال غياب هذا الحوار الشامل، فإن سوريا ستظل في دائرة الاستبداد والتقسيم، وبالتالي فإن المستقبل السياسي للبلاد غير مضمون.
الاستنتاجات والتوصيات: ضرورة تشكيل لجنة جديدة لصياغة الدستور
وفي ضوء هذه الآراء، يمكن استنتاج أن الإعلان الدستوري الذي جرى توقيعه من سلطة دمشق يعاني من العديد من الثغرات القانونية والسياسية. هذه الثغرات تشمل غياب التعددية، إقصاء المكونات الثقافية والعرقية، و التمركز السياسي في يد الرئيس، مما يعزز من احتمالية العودة إلى نظام مركزي مشابه لما كان سائدًا في العهد البعثي.
وبناءً على ذلك، يتفق جوان عيسو و خبات محمد على ضرورة تشكيل لجنة جديدة لصياغة دستور جديد يعكس الواقع السوري المتعدد ويعترف بحقوق جميع المكونات السورية. هذه اللجنة يجب أن تكون غير مسيّسة وأن تمثل كافة الأطياف السورية، وأن تعتمد على الحوار الوطني الشامل كمبدأ أساسي في وضع المسودة الدستورية.
إن المرحلة الانتقالية في سوريا يجب أن تقوم على إعادة بناء الثقة بين السوريين وتأسيس دولة ديمقراطية تعددية تحقق العدالة والمساواة لجميع مواطنيها، بعيدًا عن الهيمنة السياسية أو الطائفية.