سبع سنوات مرت منذ أن غُيّبت عفرين قسراً عن واقعها، لتصبح شاهدة على أحد أكثر الفصول مأساة في الصراع السوري. جرحها المفتوح لا يندمل، فهو ليس مجرد أثر احتلال، بل انعكاس لمعاناة شعب تمسك بأرضه وهويته، ولا يزال ينزف مع كل يوم يمر.
عفرين، التي كانت يوماً لوحةً خضراء يتناغم فيها الإنسان والطبيعة، باتت اليوم ترزح تحت وطأة الاحتلال التركي. في ذاكرة أهلها، لا تزال الأسئلة تتكرر بلا إجابة: متى نعود؟ متى تلتئم الجراح؟
شوارع المدينة لم تعد كما كانت، فقد تغيّرت معالمها، وباتت تروي قصص التهجير والفقدان. الأرصفة المهجورة، الأبواب المغلقة، والأحياء التي فقدت أهلها، جميعها شواهد على واقع فرضه الاحتلال.
من جنة خضراء إلى مأساة إنسانية
قبل 20 يناير 2018، كانت عفرين نموذجاً للتعايش السلمي بين مختلف المكونات، حيث شكلت فسيفساء ثقافية متجانسة. لكن العملية العسكرية التركية، التي أطلق عليها اسم “غصن الزيتون”، قلبت هذه الجنة إلى ساحة معاناة، في ظل صمت دولي رافق القصف العنيف والتهجير القسري.
اقرأ/ي أيضاً: مسار سياسي جديد.. اتفاق دمشق – قسد ومستقبل الحدث السوري
أكثر من 300 ألف مدني اضطروا إلى النزوح، معظمهم يعيشون اليوم في مخيمات تفتقر لأبسط مقومات الحياة. في المقابل، فرض الاحتلال واقعاً جديداً، تمثل في تغيير ديمغرافي واسع، حيث تم تقليص نسبة الكرد في المدينة إلى أقل من 23%، بعد أن كانت الغالبية العظمى، وفقاً لمنظمة حقوق الإنسان – عفرين.
الاستيطان جرى بدعم من منظمات تركية وقطرية وخليجية، حيث تم توطين أكثر من 700 ألف مستوطن، بينهم عائلات جُلبت من مناطق النزاع السوري، وحتى لاجئون فلسطينيون من المخيمات.
طمس الهوية الكردية والتغيير الديمغرافي
لم يقتصر التغيير على تهجير السكان، بل تعداه إلى طمس الهوية الثقافية للمدينة. تغيّرت أسماء الشوارع والساحات، مثل استبدال اسم “دوار نوروز” بـ”صلاح الدين”، وفرضت اللغة التركية في المدارس، ورفعت الأعلام التركية على المؤسسات العامة، بل وصل الأمر إلى إصدار هويات تركية لسكان المدينة المتبقين.
السياسات الممنهجة لم تترك مجالاً للشك بأن الهدف هو تغيير الطابع الديمغرافي والثقافي لعفرين، وتحويلها إلى منطقة لا تمت بصلة إلى تاريخها وهويتها الأصلية.
انتهاكات ممنهجة… مدينة تحت القمع
الجرائم المرتكبة في عفرين تجاوزت حدود الوصف. منذ الاحتلال، وثّقت منظمات حقوقية أكثر من 9420 حالة اختطاف، إلى جانب جرائم قتل وتعذيب ممنهجة، ما جعل المدينة بمثابة “سجن مفتوح” تسيطر عليه قوانين الفوضى والرعب.
النساء كنّ من أكثر الفئات تضرراً، إذ تم توثيق 74 حالة اعتداء جنسي، و105 حالات قتل، بينها 14 حالة انتحار بسبب الظروف القاسية. كما انتشرت ظاهرة تزويج القاصرات قسراً، وتحولت المدارس إلى مراكز اعتقال وتعذيب.
الانتهاكات لم تتوقف عند البشر، بل امتدت إلى البيئة والتراث. وفقاً لتقرير منظمة حقوق الإنسان – عفرين، دُمر 59 موقعاً أثرياً، بينها معبد عين دارا المُدرج على لائحة اليونيسكو، ونُهبت 75 تلاً أثرياً.
أما الطبيعة، فقد نالت نصيبها من التخريب، إذ تم حرق أكثر من 20 ألف شجرة زيتون، واقتلاع نصف مليون أخرى، فيما صودرت المحاصيل الزراعية لتُصدّر إلى تركيا عبر معبر “حمام”، بعد أن فُرضت على المزارعين ضرائب باهظة أجبرتهم على التخلي عن أراضيهم.
وعلى الرغم من توثيق 710 حالات قتل، بينها 96 تحت التعذيب، وإصابة 700 مدني، بينهم 335 طفلاً، فإن المجتمع الدولي لم يتحرك بجدية لوقف هذه الجرائم. يرى مراقبون أن هذا الصمت مرتبط بمصالح سياسية واقتصادية، حيث أصبحت عفرين ساحة مفتوحة لعمليات تهريب الآثار والموارد.
دعوات لعودة المهجرين… هل من مجيب؟
وسط هذه الأوضاع، تتعالى الأصوات المطالبة بعودة أهالي عفرين المهجرين إلى ديارهم. بعد سبع سنوات من النزوح، لا يزال الأمل بالعودة راسخاً في قلوب السكان الذين فقدوا كل شيء.
اقرأ/ي أيضاً: مؤتمر الحوار الوطني في سوريا.. إقصاء المكونات وإعادة إنتاج الأزمات
كلستان ديكو، مهجرة في الـ34 من عمرها، تتحدث عن مأساتها قائلة: “كل يوم في المخيم هو معركة للبقاء. أطفالنا يمرضون من البرد، بينما منازلنا يسكنها الغرباء”. تحذر من أن يتحول النزوح إلى أمر واقع، داعية إلى ضغط دولي لتمكين الأهالي من العودة.
أما الطفل أحمد، ابن العشر سنوات، فتختصر كلماته معاناة جيل كامل: “لماذا يمنعوننا من العودة؟ ألاننا كرد؟”.
إبراهيم حفطارو، عضو رابطة عفرين الاجتماعية، يؤكد أن “مهجري عفرين يعيشون ظروفاً قاسية، في ظل غياب الدعم الإنساني. العودة ليست مطلباً فحسب، بل حق مشروع يجب على المجتمع الدولي أن يضمنه”.
عفرين تحت الاحتلال… اختبار للقانون الدولي
استمرار الاحتلال التركي لعفرين والانتهاكات المرتكبة تحت غطاء الصمت الدولي يطرح تساؤلات حول مصداقية القانون الدولي. هل تتحول عفرين إلى شاهد جديد على إفلات الجناة من العقاب؟
بعد سبع سنوات من الألم والتشريد، لا تزال أصوات أهلها تطالب بالعدالة والعودة. إنها صرخة تتحدى اللامبالاة الدولية، فالشعب الذي اقتُلع من أرضه لا يطلب سوى حقه في العودة وبناء حياته من جديد. فهل سيستجيب العالم قبل فوات الأوان؟
حلب – لينا العلي