زياد وطفه.
تستند هذه الورقة إلى المنطلقات (الفرضيات السياسية) التالية:
على الصعيد العالمي:
ــ يعيش العالم مرحلة تراجع في دور قوى الرأسمال المالي العالمي، التي تصدى إثر انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 إلى بناء عالم وحيد القطبية أريد له أن يمتد للقرن الواحد والعشرين.
وقد بينت الأزمة الاقتصادية البنيوية عام 2008 عن فشل مشروع العولمة الاقتصادية القسرية للعالم التي مثلت النهج الاقتصادي لقوى الرأسمال المالي العالمي في سعيها للسيطرة، وما نتج عن تلك السياسات من نتائج سلبية على دول المركز الرأسمالي وبشكل أكبر على دول المحيط.
ــ يترافق هذا التراجع مع صعود قوى رأسمالية ناشئة ومع احتجاجات مجتمعية واسعة داخل دول المعسكر الغربي (احتلوا وول ستريت) وانزياحات لبعض تلك الدول بعيداً عن هيمنة المركز الأمريكي، بالإضافة إلى انتفاضات وتحركات وثورات في منطقة الشرق الأوسط.
ــ بعد استكمال التمدد الأفقي للرأسمالية (باستثناءات غير مؤثرة) بدأت تتشكل منظمات إقليمية ــ قارية (اقتصادية ــ سياسية) وأحياناً عسكرية في كل من أمريكا اللاتينية وأفريقية وشرق آسيا في محاولة للتصدي لهيمنة المركز الرأسمالي والحفاظ على الاستقلالية النسبية الوطنية والإقليمية، وتعتبر منظمة البريكس (فوق القارية) أهم تلك التجارب.
الحالة التي يعيشها العالم اليوم تشبه إلى حد ما مرحلة الحرب الباردة في القرن الماضي، وتختلف عنه اختلافاً جوهرياً بالطبيعة الطبقية والإيديولوجية للمتصارعين، وهي نتيجة لحاجة موضوعية لصياغة نظام عالمي جديد يستجيب لطبيعة وموازين القوى الفاعلة على المسرح الدولي، وتسعى لبناء عالم متعدد الأقطاب، قد تكون الخرائط السياسية التي بني عليها القرن العشرين غير قابلة للاستمرار في أكثر من مكان.
ــ ليس لشعوب العالم حتى الآن دوراً فاعلاً في هذا الصراع.
على الصعيد الإقليمي:
بينت أحداث العقد الحالي مقدار الاحتقان المجتمعي وحالة عدم الرضى التي تختزنها شعوب المنطقة لبلدان ذوات الاقتصاديات الضعيفة والتي رزحت لعقود تحت نير الدكتاتوريات المحمية إلى هذا الحد أو ذاك من المركز الغربي، وانخرطت بنسب متباينة في مشروع العولمة الغربية التي أدت إلى تردي الأوضاع المعيشية والتراجع الكبير للحقوق والحريات العامة.
وحتى الدول الإقليمية ذات الاقتصاديات القوية نسبياً كتركيا وإيران بينت الأحداث الأخيرة وبسبب طبيعة وحجم ارتباطها بالسوق العالمي أنها رهينة لرضا المركز الرأسمالي القادر على الضغط عليها ومحاصرتها بهدف الرضوخ لإرادته.
على الصعيد الداخلي:
سورية بعد الحرب العالمية الأولى كياناً سياسياً أنتجته الدول الاستعمارية وفق سايكس بيكو بما يخدم مشروعها الاستعماري للمنطقة، وهو بلد متعدد القوميات والأديان ومجتمع هو حصيلة تاريخية لحركة وثقافات شعوب المنطقة منذ أكثر من خمسة آلاف سنة.
سورية من بلدان المنطقة التي لم تستكمل فيها مهام المرحلة الوطنية الديموقراطية، المهام الوطنية ــ المهام السياسية (الديموقراطية) ــ الاقتصادية (الاجتماعية)، وقد عجزت تجارب الحكم السابقة عن إنجاز مهام التحقق القومي (الوحدة) للقوميتين الرئيسيتين فيها، العربية والكردية.
على الصعيد الاقتصادي:
فشل النموذج الليبرالي الاقتصادي الذي تبنته الدولة الناشئة بعد الاستقلال عن التصدي لمهام المرحلة الوطنية الديموقراطية لأسباب موضوعية وذاتية، أهمها العجز عن القطع مع بقايا الإقطاع ومجابهة الهيمنة الاستعمارية وأهم تجلياتها إسرائيل.
تصدت البرجوازية الصغيرة عبر قواها السياسية (الناصرية ومن ثم البعثية) لتلك المهام عبر ما سمي بالاشتراكية العربية أو المحلية، والتي نتج عنها شكلاً من رأسمالية دولة متخلفة مارست الحمائية وركزت لفترة طويلة على القطاعات الإنتاجية، إلى جانب الاستثمار للموقع الجغرافي والقرار السياسي.
جاء الاختراق الليبرالي الاقتصادي في العقد الأول من القرن الحالي ليسحب المكتسبات الشعبية التي قدمتها التجربة البعثية (للتحويل الاشتراكي) ويدفع باتجاه فرز طبقي جديد أعاد توزيع الثروة بشكل جائر لمصلحة قلة من الرأسماليين والملاكين الكبار، عبر عمليات الخصخصة والتحالف غير المقدس مع الرأسمال الخليجي ورموز الفساد السلطوية.
بالتزامن مع تحقيق أرقام للتنمية جيدة، ازدادت نسبة البطالة والفقر وتردت مجمل المؤشرات الاقتصادية، ما ساهم في رفع مستوى الاحتقان الذي أدى إلى حراك 2011.
يمكننا القول أن كلا النموذجين الاقتصاديين (الرأسمالي) و (الاشتراكي) ولاحقاً ما سمي باقتصاد السوق الاجتماعي استنفذوا فرصهم ولم يستطيعوا السير في مهام مرحلة التحول الديموقراطي التي تفرضها الظروف العالمية والإقليمية المعاصرة.
إن سقوط النموذج السوفييتي للاشتراكية والنتائج الكارثية للنموذج العربي من الاشتراكية، بالإضافة إلى انكفاء مشروع العولمة الاقتصادية بعودة قادته إلى الحمائية ولجوئهم إلى تدخل الدولة في حركة السوقسماليين والملاكين الكبارأ
يجعلنا أمام حاجة لنموذج اقتصادي جديد يستطيع:
ــ أن يربط بين النمو (وهو ممكن) والتنمية، لا أن تذهب عوائد التنمية إلى جيوب الأفراد من الملاك والرأسماليين المتحالفين مع قوى الفساد الحكومي والأمني.
ــ أن يحل مشكلة البطالة والفقر أو أن يسير في طريق التخفيف منها ويلغي حالة التهميش والإقصاء لبعض المناطق والتي يسميها الخطاب السياسي الرسمي (مناطق نائية) بتوزيع عادل للثروة على مستوى الأفراد والمناطق.
ــ حل المسألة الزراعية، فالإصلاح الزراعي الذي طبق نتج عنه أن أصبحت المناطق المنتجة تاريخياً للمحاصيل الزراعية (الجزيرة ـ حوران) وغيرها هي المناطق الأكثر فقراً وتهميشاً.
ــ رفع سوية التصنيع الوطني في كافة المجالات بهدف البدء بمشروع تنمية وطني شامل يساهم في صياغة هوية وطنية تتجاوز الهويات الثانوية التي كرستها سياسات نظام الاستبداد عبر عملية إدارة الخلافات بين المكونات لا جمعها في بوتقة وطنية واحدة.
ــ أن يحافظ على أعلى درجة من الاستقلالية، ويكون قادراً على التشبيك مع اقتصاديات دول المنطقة والدول الصديقة بما يخدم المشروع الوطني في تحرير الأراضي المحتلة وبناء كيان إقليمي يحقق طموحات شعوب المنطقة بالتعايش والتقدم.
ــ أن يشكل دعماً حقيقياً للمهام الوطنية والسياسية، فاقتصاد مرتهن لأدوات النهب الإمبريالية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) لا يمكنه مجابهة الهيمنة الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.
وقد بينت التجربة التاريخية لبلدان المنطقة ضرورة الربط الجدلي بين المهام الثلاث من ناحية الطبيعة المتآلفة لبرامجها والتزامن في تنفيذها.
لقد كانت نظرية المراحلية لتطبيق تلك المهام (الوطنية أولاًـ أو الإدارية أولاً) تعبيراً صريحاً عن رغبة الحكام في الهروب من التصدي لاستحقاقات تلك المهام، وعن عجزها البنيوي عن ذلك.
ــ التوفيق بين الحاجة الموضوعية الناتجة عن الظروف الحالية في سورية بضرورة التخطيط المركزي الشامل لكافة المناطق بما يخدم تناغمها في تنفيذ مشروع التنمية الوطني، وبين الحاجة الملحة لإدارة أبناء تلك المناطق لشؤونهم الإدارية والاقتصادية والحقوقية.
ــ أن يشحذ الطاقات بمشاركة الجميع في رفع سوية الإنتاج ويعمل على شد الأحزمة ومنع الهدر واقتلاع كل أشكال الفساد من أجل التصدي للوصول إلى أرقام تنمية عالية تساعد على إعادة البناء.
أهم معالم الاقتصاد المطلوب:
- التركيز على القطاعات الإنتاجية وأهمها الزراعة والصناعة.
- إعادة هيكلة القطاع العام وتطهيره ومأسسته وإيجاد آليات ذاتية للتحفيز والرقابة، واستعادة الدولة ملكيتها للشركات والقطاعات ذات المردود العالي وذات الطبيعة الوطنية العامة (نفطـ مرافئ ـ مطارات ـ طاقةـ مياه)
- ربط الأجور بالأسعار.
- مشاريع كبرى في البادية والمنطقة الشمالية والشمالية الشرقية والتركيز على مكننة كاملة للزراعة ودعمها بالأموال والخبرات العلمية.
- إلغاء أي مشاركة غير وطنية في مجال البترول والغاز.
خاتمة:
لا يتجاوز هذا المشروع كونه نظاماً اقتصادياً رأسمالياً بقدر ما يسعى إلى الاستفادة من الممكنات الإيجابية للمسيرة التاريخية للاقتصاد الرأسمالي، والمكتسبات التي كرستها نضالات الطبقة العاملة عبر هذه المسيرة في سعيها لتحقيق العدالة، وهو يمثل الحالة الأمثل والممكنة موضوعياً والقادرة على المساهمة في تهيئة المناخ العالمي لإنضاج الظروف الموضوعية والذاتية للانقلاب الإنساني (الاممي) للوصول إلى مجتمع الحرية والعدالة (اشتراكية العصر).