بقلم: أمجد عثمان -المتحدث الرسمي باسم مجلس سوريا الديمقراطية
في 17 نيسان 1946 ألقى الرئيس السوري الراحل شكري القوتلي خطاباً تاريخياً بمناسبة جلاء آخر جندي فرنسي عن سوريا، وذكر الرئيس القوتلي الفرنسيين مرتين فقط في خطابه وأثنى على ثلاثة دول، إذ قال “لا بد لي هنا من التنويه بموقف الدول المتحالفة بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي من قضية استقلالنا فقد أيدت منذ الأصل حقنا وسارعت إلى الاعتراف العملي باستقلالنا”.
وليس في حديث القوتلي عن الدول الثلاث مفارقة، بقدر ما هي نزاهة السياسي في منهجه وخطابه والتي سرعان ما اعتكست في العرف العام لتحل المزايدات دليلاً وإماماً في خطاب معظم الساسة الذين مهما تباينوا كانت تجمعهم المزايدة في المناسبات، كعيد الجلاء الذي أصبح منذ ذلك التاريخ يوماً وطنياً رسمياً عجز السوريون عن ترجمة مضامينه، وفشلوا في إعداد المناسبة لتشكل نطاق للعمل السياسي الواعي بالتاريخ وفلسفته، ما أبقاهم بعيدين عن إنجاز شخصية الإنسان الحر والكيان الوطني المستقل، فظل ارتباطهم بمظهر المناسبة وميقات تأريخها، كانتصار عظيم ينسيهم إخفاقاتهم ويغيب خيباتهم الأخرى.
لقد اختلفت الإيديولوجيات بشكل كبير في تناول قضية الاستقلال الوطني، ورغم رفض اليسار الراديكالي شعار الاستقلال الوطني “كشعار رجعي تاريخيا” وقبوله بعد ذلك دمج المسألة القومية مع النضال الطبقي فإن حركات التحرر الوطنية متعددة الطبقات هي التي فرضت نفسها في النهاية ولكنها اختلفت في مستويات تطوير نضالها في المراحل اللاحقة للاستقلال إذ استمرت حركات كثيرة متأثرةً بفكرة “تطوير النضال الأممي من أجل سلطة الطبقة العاملة” التي لم تتحقق وفق أطرها النظرية، كما أحبطت أي تطلعات نحو تطوير القيم الوطنية ومفاهيم المواطنة وتحقيق الرفاه والعدالة لأوطانها.
المفارقة أن في سوريا يحتفل باليوم الوطني من لا يؤمنون بأن سوريا وطنٌ أخيرٌ لهم، عروبة حزب البعث التي تنظر إلى سوريا كقُطرٍ مؤقت في مشروع “الوطن العربي” بررت لهذا الحزب الذي يحكم سوريا منذ عام 1963 تهرّبه من تطبيق أي نظرية ديمقراطية، كذلك التيارات اليسارية المؤثرة وغير الحاكمة ظلت تعبئ جماهيرها بفكرة النضال الأممي الطبقي وأن “الثورة لابد أن تكون أممية حتى تنجح”، إلى جانبهم أيضاً وفي الظل كان الإخوان المسلمون الحالمون بتوحيد الأمصار الإسلامية يعملون ما بوسعهم لتقلد السلطة في وطن ليس فيه ما يكفي لأن يقنعهم ويرضي جموحهم، وفي ظل هذا التناقض بين مختلف السوريين كان المشترك أن جميعهم غير قانع بسوريا كوطن نهائي، وبالنتيجة كانت التضحية بالمصلحة الوطنية لصالح اعتبارات قوموية وإيديولوجية وعقائدية.
ماذا أبقى هؤلاء من معنى لليوم الوطني! وهل لا يزال ممكناً – وجيوش عالمية تحكم سيطرتها على الأرض والسماء – الحديث عن يوم وطني إلا ضمن سياقات المزايدة والاستهلاك في إطار سجال سوري داخلي غير ذي فائدة، في محاولة تعسة للاستمرار في التغافل عن حقائق كثيرة من بينها حقيقة أن النظام الرسمي في سوريا يرفض أي تغيير في سياساته بعد كل هذا الدمار، وحقيقة نجاح التحالف العربي الكردي السرياني الآشوري “قسد” في القضاء على الدولة الترابية لتنظيم “داعش” الذي احتل ما يقارب ثلثي مساحة سوريا، وحقيقة أن عفرين وإدلب وجرابلس تحتلها تركيا، وأن كلا من إيران وروسيا تهيمنان على القرار السيادي وأن التحالف الدولي بقيادة أمريكا يسعى لرسم محددات الحل السياسي للصراع السوري.
لن يخالف المنطق في – ظل ما استجد على الصعيد السوري – أن يتخذ السوريون تاريخ إعلان النصر على “داعش” يوماً وطنياً كمناسبة لن يختلفوا حول أهميتها، أو يوم يتوصلون لإنجاز دستور وطني يراعي في معاييره تاريخ شعوب سوريا بالاستناد إلى سياسات راجحة، وليس استثناءً أن يكون لبلد ما أكثر من يومٍ وطني، خصوصاً مع تطلع الكثير من السوريين لبناء نظام حكم لا مركزي يعيد التوازن إلى المجتمع ويحقق الانسجام بين المصالح المحلية والوطنية، فالصينيون يحتفلون في يومين وطنيين في منطقتين إداريتين، وفي النرويج اعتمد تاريخ إقرار دستور البلاد يوماً وطنياً.
إن سوريا بحاجة إلى مؤسسات وطنية تباشر عملية ضخمة وشاملة لإعادة إنتاج الهوية الوطنية السورية الممزقة بفعل التناقضات والصراع، والعمل على إنتاج دستور يكسب ولاء السوريين عبر التزامه بالتعبير عن مصالحهم، ولا شك أن موضوع اليوم الوطني له أهميته كونه بوابة الناس للتعبير عن تصالحهم مع أوطانهم، والسوريون في يومهم الوطني الذي فقد دلالاته ليسوا بحاجة لمزايدات وإنما بحاجة لجلاء معتقداتهم الخاطئة من أذهانهم وإعادة توطين سوريا في وعيهم كوطن يستحق ويلزم أن يستقل.
تنويه: هذا المقال نشر بتاريخ 25 نيسان /ابريل 2019 على موقع العربية نت