اتفاق 10 آذار بين قوات سوريا الديمقراطية والحكومة السورية المؤقتة جاء كفاصلٍ جديد في مسار الحوار السوري–السوري، لا بوصفه نهايةً لمشكلات طويلة، بل كبداية عملية لإعادة مسار سياسي يضع الحقوق والمصالح الوطنية في مقدمة الأولويات. نصُّ الاتفاق، بل وروحه، يسعيان إلى تقريب وجهات النظر بين السوريين، مع تأكيد ضرورة تثبيت الحقوق، حماية المكونات، وتجاوز الاصطفافات التي عمّقت الانقسام. نجاح الاتفاق بمضمونه وآلياته، سيكون بمثابة فتح نافذة لإنتاج حلول دستورية وإدارية تمكّن من توحيد القرار الوطني، وإرساء قواعد عدالة تمثيلية تضمن الاستقرار الطويل الأمد.
الاتفاق خطوة نحو مصالحة وطنية داخلية
الناشط السياسي سامر الفاضل، من مدينة إدلب، يرى في اتفاق 10 آذار محطة تحوّل تُعيد ترتيب الأولويات الوطنية:
“الأهم في هذا الاتفاق أنه يضع نهاية لأسطورة الحل العسكري كخيار وحيد. بالنسبة لنا في إدلب، حيث تألمت المجتمعات من سنوات الاقتتال والتوترات المجتمعية، أي محاولة لترجمة الخلافات إلى طاولة تفاهم تُحتكم فيها الأجندات إلى مصلحة السوريين يجب أن تُحتفى بها. نجاح الاتفاق سيعني أن الحوار الداخلي استعاد أدواته: السيادة الوطنية، وحدة القرار، والقدرة على إدارة الاختلافات ضمن إطار قانوني ودستوري. هذا ليس انتصاراً لطرفٍ على آخر، بل انتصار للسياسة على السلاح، وللانتقال من منطق الصراعات الإقليمية إلى منطق مسؤولية السوريين عن مستقبل بلادهم.”
اقرأ/ي أيضاً: درعا.. ضرورة تكريس الحلول السياسية عبر الحوار الوطني الشامل
يضيف الفاضل أن نجاح اتفاق 10 آذار مرهون بمدى التزام الأطراف ببنوده التنفيذية، ولا سيما ما يتصل بوقف التحريض الإعلامي، وتفعيل قنوات التنسيق الميداني، وتهيئة بيئة ملائمة للحوار المجتمعي. كما يشير إلى أن إدلب تترقب أن يفضي الاتفاق إلى خطوات عملية تعزز الثقة بين السوريين، مثل ضمان حرية التنقل والتجارة، وتخفيف معاناة المدنيين، وفتح المجال أمام مبادرات المصالحة المحلية برعاية وطنية تحفظ الحقوق وتصون الأمن المجتمعي.
حقوق المكونات في المشروع الوطني الجديد
الأكاديمي والباحث الحقوقي خالد عبد الرحمن يؤكد أن أي حل وطني لا يضع حقوق المكونات في صلبه سيظل هشّاً:
“إن النصوص الدستورية والعقد الاجتماعي الجديد يجب أن تُترجم ضمانات ملموسة لحقوق المكونات — القومية والدينية والثقافية — بحيث لا تُعامل الحقوق كامتيازات، بل كحقوق مواطنة متساوية. هذا يتطلب آليات دستورية: فصل السلطات الفعّال، محكمة دستورية مستقلة، نظام انتخابي يضمن تمثيلاً عادلاً، وآليات تعزيز اللغة والثقافة والحقوق المدنية للمجتمعات . من دون ذلك، يصبح الحديث عن وحدة الوطن كلاماً مجرَّداً يخفي استمرار الإقصاء.”
ويشرح عبد الرحمن عناصر صمام الأمان الدستوري: نصوص تمنع التمييز، آليات رقابية وطنية ودولية لمراقبة احترام الحقوق الأساسية، ضمانات التمثيل في الوظائف العامة والاستحقاقات السياسية، وبرامج انتقالية تُعالج آثار الإقصاء التاريخي وتضمن تكافؤ الفرص الاقتصادي والاجتماعي. يشدد على أن صياغة دستورية متقدمة ينبغي أن تنتقل من مجرد إقرار الحقوق إلى تصميم مؤسسات تضمن تنفيذها ومراقبتها.
اللامركزية خيار وطني لتوحيد سوريا
المحامي والناشط محمد العلي يعالج أحد أكثر الملفات حساسية: العلاقة بين اللامركزية ووحدة البلاد. يقول العلي:
“اللامركزية ليست انفصالاً؛ إنها آلية إدارية وسياسية لتمكين المجتمعات المحلية من إدارة شؤونها، مع الحفاظ على سيادة ووحدة الدولة. تجربة المركزية المطلقة في نموذج الحكم السابق أثبتت أنها تُعزّز التهميش وتكَبّل المبادرة المحلية. اللامركزية التي نحتاجها تقوم على قواعد واضحة: اختصاصات مقنّنة بين المركز والمحليات، سياسات عادلة لتوزيع الموارد، مراقبة مركزية على السياسات الأمنية لضمان عدم تحويل الحكم المحلي إلى منطلق لسياسات انقسامية، ونظام محاسبة وشفافية يربط الأداء المحلي بالمعايير الوطنية.”
اقرأ/ي أيضاً: الساحل السوري واللامركزية.. خيار الحل الشامل
يوضح العلي أن اللامركزية، في السياق السوري، تمثل الخيار الوطني الأمثل لإدارة البلاد، إذ تضمن الحفاظ على وحدة السيادة مع منح الإدارات المحلية صلاحيات إدارية ومالية كافية تمكّنها من تسيير شؤونها بكفاءة وشفافية. ويقترح العلي خطوات انتقالية عملية لتطبيق هذا النموذج، من بينها تنفيذ تجارب محدودة في بعض المناطق، وسنّ تشريعات تكفل حقوق المكونات المحلية، إضافةً إلى إطلاق برامج تدريب إدارية وقضائية لتأهيل الكوادر المحلية بما يحقق عدالة فاعلة وجودة أعلى في تقديم الخدمات.
نموذج قابل للتكرار لإعادة بناء الدولة
اتفاق 10 آذار ليس مجرد وثيقة ثنائية بين طرفين؛ بل يمثل محاولة لإخراج السياسة السورية من منطق المحاور والاحتواء إلى منطق الاجتهاد الوطني المشترك. الاتفاق يفتح نافذة أمل بأن تُترجم الحلول الإدارية والدستورية إلى سياسات تحمي المكونات وتضمن العدالة والتمثيل، وتكسر علاقة الدولة بالمركزية المطلقة التي أسهمت في إضعاف الشرعية الوطنية.
إلا أن التحوّل الحقيقي مرتبط بقدرة الفاعلين على ترجمة النص إلى آليات تنفيذية: ضمانات دستورية، مؤسسات رقابية مستقلة، مشاركة مجتمعية فعّالة، وإطار لامركزي يوازن بين تمكين المحليات وحفظ وحدة السيادة.
إذا توفرت هذه الشروط، فسيكون اتفاق 10 آذار نموذجاً قابلاً لإعادة الإنتاج في مناطق سورية أخرى، ليس كحل مؤقت بل كمنهج لإدارة الاختلافات وبناء دولة سورية ديمقراطية، موحدة، عادلة، تحترم التعدد وتنبذ الانقسام. أما في حال عجزت الأطراف عن تطبيق بنود الاتفاق أو افتقرت للشفافية والحوكمة، فستتحول الوثيقة إلى ورقة تفاهم هشة لا تقنع الشارع ولا تهدئ مخاوف المكونات. لذلك، الطريق طويل لكنه ممكن—والأساس هو التزام صادق، وإشراك المجتمع المدني في متابعة التنفيذ لضمان أن يكون الاقتصاد السياسي للاتفاق خدمةً لوحدة الوطن لا لآليات نفوذ جديدة.
بلال الأحمد-إدلب
