تشهد محافظة درعا، الواقعة في جنوب سوريا، حالة من التوتر السياسي والأمني المزمن، تعكس تراكم أزماتٍ وصراعاتٍ ممتدة منذ أكثر من عقد، لم تجد حتى اليوم حلولًا جذرية. هذه المحافظة التي شكّلت شرارة التحولات السورية الأولى، باتت نموذجاً دقيقاً لفهم تعقيدات العدالة الانتقالية في سياق الأزمات الوطنية. فالعدالة هنا لا تُختزل في بعدها القانوني أو المؤسسي، بل تمثل حاجةً مجتمعيةً ملحّة لإعادة بناء الثقة وتعزيز الاستقرار بين مكونات اجتماعية متعددة ومتأثرة بانقسامات عميقة.
تواجه درعا اليوم تحديات كبيرة تقف في وجه تحقيق مصالحة حقيقية وشاملة، تبدأ من الانقسامات الداخلية وما خلّفته من آثار اجتماعية، مروراً بغموض الأطر القانونية وغياب ضمانات المحاسبة، وصولًا إلى هشاشة الوضع الأمني وفقدان الثقة بين الأطراف السياسية. ومع ذلك، لا يخلو المشهد من فرص إيجابية يمكن البناء عليها لترسيخ أسس العدالة وإرساء دعائم الاستقرار السياسي والاجتماعي، بما ينعكس على عموم مناطق سوريا.
اقرأ/ي أيضاً: اللاذقية.. دعوات ومطالبات بإطلاق الحوار الوطني السوري
يؤكد سالم الجبور، أحد وجهاء محافظة درعا، أنّ ما تعيشه المحافظة من اضطرابات أمنية يستوجب تطبيق العدالة الانتقالية كشرطٍ أساسي لتحقيق الاستقرار. ويقول: “من وجهة نظري، العدالة الانتقالية ليست خياراً بل ضرورة ملحّة لأي حل سياسي وأمني في درعا وسواها من المناطق السورية. من دون معالجة حقيقية للانتهاكات ومحاسبة المتورطين، لن نصل إلى استقرار دائم. العدالة تخلق قاعدة صلبة لإعادة بناء الثقة بين الناس والدولة، وهي الأساس لأي عملية سياسية ناجحة”.
ويضيف الجبور أنّ درعا تعاني من تراكمات عميقة ومشاعر غضب واستياء نتيجة سنوات الصراع والقمع وغياب العدالة، ما خلق مناخاً من الاحتقان وانعدام الثقة بالمؤسسات. ويرى أنّ التحدي الأكبر أمام الحكومة الانتقالية هو قدرتها على تقديم حلول واقعية وعادلة تضمن عدم إفلات أيّ مسؤول عن الانتهاكات، مع حماية الحقوق الإنسانية للمجتمع. لكنه يشير إلى أنّ غياب الحوار الحقيقي والشامل يبقي الأزمات مفتوحة والجراح دون التئام، وهو ما يجعل مسار العدالة الانتقالية معقدًا وشائكًا.
ويتابع الجبور بالقول إنّ “السلطات الجديدة في دمشق مطالبة بخطوات جدية لوقف الاحتقان في درعا وسائر المحافظات السورية، أولها الإعلان عن آلية وطنية للعدالة الانتقالية تستند إلى المشاركة المجتمعية والمساءلة الحقيقية، مع ضمان استقلالها. كما يجب إطلاق برامج إصلاحية وردّ الحقوق المنتهكة ودعم مشاريع المصالحة المجتمعية بين أطراف النزاع المحليين عبر لجان مشتركة تحت إشراف قانوني”.
ويختم الجبور حديثه مؤكدًا أنّ “التوازن السياسي والأمني يتحقق عبر عدالةٍ لا تكون انتقامية أو انتقائية، بل تحمل طابع الشفافية والمصالحة. العدالة تعني التوثيق الدقيق للانتهاكات والاعتراف بها ومحاسبة الفاعلين بطريقة تحفظ الكرامة وتعالج المظالم بواقعية. فالسلام الحقيقي لا يُبنى على التجاهل أو التغاضي عن الانتهاكات، بل على الاعتراف والمصالحة. أدعو السلطات لاتخاذ قرارات شجاعة تدمج العدالة بالمصالحة، وأقول لأهل درعا إنّ الصبر والتواصل هما مفتاح الخروج من الأزمة، فالمصالحة صعبة لكنها الطريق الوحيد نحو الأمان والمستقبل الأفضل”.
من جهته، يرى فواز العبد، وهو ناشط سياسي من مدينة نوى، أنّ أهالي درعا ينظرون إلى العدالة الانتقالية كضرورةٍ ملحّة، لكنها في الوقت نفسه صعبة التطبيق في الظروف الراهنة. ويقول: “العدالة بالنسبة للناس تعني محاسبة الفاعلين في الانتهاكات التي شهدتها المحافظة، لكن للأسف، بعض هؤلاء يشغلون اليوم مواقع في أجهزة الأمن الجديدة، ما يعزز الانقسامات ويغذي الشكوك بين المكونات الاجتماعية، ويعرقل أي خطوات عملية في هذا المجال”.
اقرأ/ي أيضاً: بين المخيم والعودة.. مأساة النازحين في إدلب
ويتابع العبد أن التحديات أمام العدالة الانتقالية في درعا كثيرة، أبرزها الانقسامات العائلية والقبلية التي تعمّقت بعد الأزمة، ما يجعل من الصعب صياغة رؤية موحدة للعدالة. كما أنّ غياب الثقة بين الأطراف المختلفة، خاصة بين من شاركوا في الصراع والمتضررين منه، يزيد من صعوبة الوصول إلى حلول. ويضيف: “المسارات القانونية ما تزال غامضة، ولا توجد ضمانات واضحة لمصالحة حقيقية أو محاسبة عادلة. ومع ذلك، هناك نقاط قوة يمكن البناء عليها، منها نشاط المجتمع المدني المحلي الذي يسعى لتقريب وجهات النظر بين الأهالي، ورغبة الجميع في الأمن والاستقرار. كذلك، هناك انفتاح نسبي للحوار بين القرى والبلدات عبر لجان أهلية، تسهم في بناء الثقة تدريجيًا”.
ويختم العبد حديثه قائلًا: “العدالة الانتقالية هي مفتاح النجاة لكل السوريين دون استثناء، ويجب البدء بخطوات عملية مثل إحقاق الحق للضحايا عبر توثيق الانتهاكات ودعم مشاريع المصالحة التي تركز على المصارحة والاعتراف بالجرح. كما ينبغي تفعيل دور الشخصيات المجتمعية لتنشئة أجواء الحوار والتفاهم، مع توفير حماية للناشطين المنخرطين في هذه العملية من مخاطر الانتقام. نجاح العدالة الانتقالية يتطلب دعماً قانونياً وسياسياً واضحاً، إضافةً إلى دعم مالي وتقني لمنظمات المجتمع المدني. ورغم صعوبة المسار، فإن الأمل في درعا كبير، وسنبقى نعمل بصبر وإصرار من أجل تحقيق العدالة وبناء السلام الحقيقي”.
يتضح أنّ الطريق إلى استقرارٍ سياسي واجتماعي مستدام في درعا لا يمرّ إلا عبر مواجهة الماضي بموضوعية وشجاعة. فالعدالة الانتقالية بما تمثله من مساءلةٍ واعترافٍ بالمعاناة، تشكل حجر الأساس لبناء مصالحة وطنية شاملة، ومن دونها ستبقى حالة الاحتقان والانقسام قائمة. إنّ العدالة ليست هدفًا منفصلًا، بل جزءٌ من نهجٍ شامل لتحقيق السلام وإعادة الاعتبار لقيم المواطنة والقانون، بما يجعل من درعا نموذجًا يُحتذى في سورية المستقبل، حيث تصان الكرامة وتتحقق العدالة ويُستعاد الأمل بمستقبلٍ آمن ومستقر.
هيثم الحوراني – درعا

