تمرّ محافظة السويداء بمرحلة مفصلية في تاريخها المعاصر، حيث تتشابك التحديات الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية مع أزمات سياسية عميقة فرضتها الأحداث المتلاحقة خلال الأعوام الماضية. في هذا الواقع المضطرب، تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة تجديد مشهد العلاقات بين الدولة والمجتمع عبر عقد اجتماعي جديد يعيد بناء الثقة، ويفتح الأفق نحو مستقبل أكثر استقراراً وعدلاً. إنّ هذه المرحلة تتطلب نهجاً وطنياً شاملاً يبدأ بترميم الجراح الإنسانية وتهيئة الأرضية الملائمة للحوار السياسي، بعيدًا عن خطاب التطرف والانقسامات، وبتركيز خاص على حماية الحقوق وتوفير مقومات الحياة الأساسية لكل أبناء السويداء دون استثناء. غير أنّ تفعيل هذا المسار الوطني يتوقف على تجاوب فعلي من جميع الأطراف، فالمحافظة ليست معزولة عن السياق السوري العام، بل قد تشكّل نموذجاً واعداً للانفراج والتعايش المستدام المبني على العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية.
الاستقرار الإنساني مدخل للعدالة الانتقالية
سلمان هدلة، ناشط مدني من السويداء، يؤكد أنّ المسار الوطني ما زال يحتاج إلى تفعيل جدي وحقيقي، موضحاً أنّ المعوقات كثيرة، بعضها سياسي وبعضها بيروقراطي. لكنه يرى أنّ الأهم هو أن يكون هذا المسار شاملاً وشفافاً، يبدأ أولاً بالعناوين الإنسانية، لأنّه من دون استقرار إنساني لا يمكن بناء أي حل سياسي مستدام ولا الوصول أساساً إلى العدالة الانتقالية.ويضيف سلمان أن التطرف السياسي يشكّل عائقاً جوهرياً ويفاقم الأزمة في سوريا عموماً وفي السويداء على وجه الخصوص. لذلك من الخطأ التعامل مع الأزمة السورية كمسألة يمكن حلّها بإجراءات سطحية أو متسرعة، بل يتطلب الأمر معالجة شاملة تأخذ في الاعتبار الأسباب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تواجهها المجتمعات المحلية. ومن هنا، يدعو سلمان إلى البحث عن مخارج سياسية جديدة تعيد تأطير هذه الأزمات، وتبني مسارًا يرتكز على الحوار والتقارب الوطني وتعزيز اللحمة الاجتماعية.
اقرأ/ي أيضاً: حمص والمجتمع المدني.. التشاركية ركيزة للسلم الأهلي والتنمية المستدامة
كما يشدّد على أنّ المجتمع المدني والحراك السياسي في سوريا يمثلان الحلقة الأهم بين الشعب والدولة، إذ يمكن للفاعلين السياسيين والناشطين أن يضغطوا من أجل تحديث وتفعيل المسارات الوطنية، ورفع صوت العدالة والاعتدال، والدفاع عن الحقوق الإنسانية بعيدًا عن الأجندات الضيقة. ويقول: “نحن بحاجة إلى مبادرات تفتح حواراً صريحًا بين كل مكونات المجتمع، على قاعدة احترام الجميع والعمل من أجل الخير المشترك”.
قواسم مشتركة لبناء سوريا ديمقراطية
من جانبه، يؤكد وليد كربوج، المحامي والناشط القانوني، أنّ السويداء تعيش مرحلة بالغة الحساسية. وبرغم الجراح الكثيرة والنكبات المتراكمة، فإنّ أبناء المحافظة يتطلعون إلى أمل جديد يعيد لهم كرامتهم وحياتهم الطبيعية. ويرى أنّ المدخل لتحقيق ذلك يكمن في صياغة عقد اجتماعي جديد، حقيقي وواضح، يعيد تأسيس العلاقة بين المجتمع والدولة، ويحدد شكل التفاعل بين الناس أنفسهم، بحيث يكون هذا العقد عادلًا وينسجم مع تطلعات الجميع.
ويشدد وليد على أنّ هذا العقد يجب أن يتضمن ضمان الحقوق وتحقيق العدالة الانتقالية، مع تمكين الدولة من القيام بدورها بفعالية دون أن تتحول إلى أداة قمعية، بل كجهة ضامنة للأمن والاستقرار والخدمات والمساواة. ويقول: “أهم ما نحتاجه اليوم هو إنهاء حالة التشرذم والجمود التي عشناها، والوصول إلى تفاهم شامل على القواسم المشتركة بين أبناء المحافظة، خاصة أن هذه القواسم تجمع كل السوريين”.
ويرى وليد أنّ إعادة بناء ثقة الناس بالدولة تحتاج إلى خطوات عملية ملموسة، تبدأ بإعادة هيكلة الخدمات وتوفيرها بشكل مستدام، وتنتهي بحوار سياسي واسع يتيح لجميع الأطراف المشاركة في رسم مستقبل المحافظة. ويضيف: “لا بد من توفير الحد الأدنى من الخدمات الضرورية لجميع الناس بلا استثناء، وضمان الأمن الحقيقي الذي يسمح للمواطن أن يعيش بطمأنينة بعيدًا عن الخوف والعنف. الأهم في هذا التوقيت هو فتح آفاق سياسية تجمع ولا تفرق، تقوم على العدالة والمشاركة لا على السيطرة والتهميش. بدون هذه الأولويات، يبقى أي حديث عن عقد اجتماعي جديد مجرد شعارات”.
اقرأ/ي أيضاً: درعا وضرورة البحث عن مسار سياسي يُحقق تطلعات السوريين
ويختم وليد بقوله: “الشعب السوري يطمح إلى بناء ضامن عادل وشفاف، فلنتوقف عن تأجيل الحلول أو تحميل الناس تبعات أزمات لم يخلقوها. الفرصة لا تزال قائمة لإعادة البناء الحقيقي، لكنها تحتاج إلى الاستماع الصادق والقرار الشجاع والتنفيذ النزيه. إذا ما تم تفعيل هذا المسار، ستشهد السويداء لحظة سلام حقيقي لا مثيل لها، وستكون سوريا كلها على طريق العدالة الانتقالية والدولة المدنية الحديثة التي تحتضن أبناءها جميعًا”.
نحو عقد اجتماعي يعيد بناء الثقة
تجربة السويداء الراهنة توضح أن أي مسار إصلاحي شامل لا يمكن أن ينجح ما لم تتكامل الجوانب الإنسانية والسياسية في تضافر هادف يعزز دور الدولة. فترميم الواقع الإنساني المتردي هو حجر الأساس الذي تستند إليه كل المبادرات السياسية الجادة. أما غياب العدل والمشاركة الشفافة في الحياة العامة، فلا ينتج إلا فراغًا يغذّيه التطرف والانقسامات، التي تعود بالضرر على الجميع.
إنّ محافظة السويداء، شأنها شأن كل المحافظات السورية، تتطلع إلى عقد اجتماعي جديد يتجاوز أخطاء الماضي، ويعيد صياغة العلاقة بين المواطن والدولة على أسس تضمن الحقوق وتؤسس للاستقرار. ذلك يتطلب إرادة حقيقية وسياسات واضحة تضمن الأمن والتنمية والعدالة الاجتماعية، لتفتح الباب أمام مرحلة من السلام الدائم. في نهاية المطاف، فإن تجاوز الجراح وإعادة بناء النسيج الاجتماعي في السويداء لن يكونا مجرد خطوات رمزية، بل استثمارًا استراتيجيًا في مستقبل سوريا بأسرها، حيث يمكن لكل مواطن أن يعيش بكرامة وأمان في وطن موحّد يفتح ذراعيه للجميع.
عمر صحناوي- السويداء