تتعمّق الأزمة السورية يوماً بعد يوم، ويتضح أن ما يجري لم يعد مجرّد صراع مسلّح أو تنازع على السلطة، بل هو انعكاس لأزمات متراكمة في بنية المجتمع والسياسة والدولة. وفي مدينة اللاذقية، التي تحمل تاريخاً اجتماعياً وسياسياً عريقاً، تتجلّى هذه الأزمة بشكل خاص، إذ تتقاطع المعاناة اليومية مع غياب الحوار الوطني الشامل، وهو غياب لا يقتصر على تعطيل قنوات التفاهم بين السوريين، بل يكرّس الانقسام ويمنع الوصول إلى استقرار سياسي وأمني حقيقي، ما يفتح الباب أمام الاستقطابات والصراعات التي تهدد نسيج المجتمع السوري.
من هنا، يبرز الحوار الوطني كضرورة حتمية ومدخل أساسي لتجاوز هذه المآزق. فالمطالب المتكرّرة، سواء من أهالي اللاذقية أو غيرها من المحافظات السورية، تنطلق من إيمانٍ بأن الحل يبدأ بحوارٍ صادق وشفاف، يقوم على قاعدة المصارحة وينبذ الإقصاء، ويمنح الجميع حق التعبير دون وصاية أو تحيّز. ذلك أن الحوار، بهذا المعنى، هو السبيل الوحيد نحو مستقبلٍ يتّسع لكل السوريين، بعيدًا عن تأثيرات الخارج وازدواجية الخطاب السياسي، وبما يفضي إلى إصلاح جذري يُعيد ترميم حالة اللااستقرار التي طالت الوطن وأهله.
اقرأ/ي أيضاً: بين المخيم والعودة.. مأساة النازحين في إدلب
يقول نضال سلامة (67 عاماً)، وهو معتقل سابق في سجون النظام وناشط سياسي من مدينة اللاذقية:
“منذ عام 2006 وحتى 2009 كنت معتقلًا بتهم سياسية، لمجرد أنني عبّرت عن رأيي وسعيت لتنظيم حوار وطني حقيقي وشامل. كانت تجربتي قاسية، مليئة بالتعذيب النفسي والجسدي، لكنني خرجت بأمل واحد فقط: أن يجد السوريون طريقهم إلى الحوار والوفاق”.
يؤكد نضال أن اللاذقية، شأنها شأن المدن السورية الأخرى، تعيش حالة من التوتر وعدم الاستقرار. ورغم الهدوء النسبي فيها، إلا أن هناك استقطابات خفية تُعمّق الانقسام بين مكوناتها، في ظل غياب حوار وطني جامع. ويضيف:
“هذا الغياب أثّر بشكل مباشر على الأمن والاستقرار السياسي. لم تعد المدينة تنبض بالحياة، وحالة الشك المتبادل بين الناس باتت تنعكس على كل تفاصيل الحياة. نحن بحاجة إلى منصة وطنية حقيقية للحوار، لأن غياب العدالة والمشاركة السياسية يعمّق الأزمات، ويُنتج ثقافة العداء والريبة. لا بد من حوار عادل وشفاف يجمع السوريين جميعاً، بلا إقصاء أو تحيز”.
ويتابع نضال قائلاً:
“الحوار الوطني هو المخرج الوحيد من دوامة الأزمات. فهو يعيد بناء الثقة بين الأطراف، ويُعزّز الانتماء والهوية الوطنية، ويمهّد لبناء مشروع سياسي يحترم الحقوق والحريات. وبدونه ستظل الأزمة مستمرة والفراغ الأمني والسياسي متفاقم. نحن بحاجة إلى حوار لا يُهمّش أحدًا ولا يُقصي أي مكوّن سوري. يمكن للاذقية أن تعود مدينة للسلام والتعايش، وأن تتجاوز الخلافات نحو تفاهمات تنهي الألم. سوريا كلها تحتاج إلى إطار سياسي عادل ينطلق من المصالحة والعدالة، ليعيد بناء وطنٍ قوي ومستقر”.
ويختم بقوله:
“الحرية والحوار هما الطريق الوحيد لتجاوز محنة وطننا. فالحوار ليس ضعفًا، بل هو قرار شجاع لبناء المستقبل”.
من جانبه، يرى المحامي نادر أنطاكلي (53 عاماً)، وهو ناشط حقوقي من اللاذقية يعمل في الدفاع عن حقوق الإنسان، أن المدينة تعكس بدقة حالة البلاد. ويقول:
“أتابع عن قرب أوضاع اللاذقية، وهدفي هو دعم صوت الناس ومساعدتهم في التعبير عن مطالبهم بطرق سلمية وقانونية. أهالي اللاذقية يعانون، مثل غيرهم، من حالة اللااستقرار السياسي والأمني، لكنهم رغم التحديات يريدون أن يكونوا جزءاً من الحل لا أدوات في يد الخارج ولا ضحايا لصراعات لا تمثلهم. مطلبهم الأساسي هو الوحدة الوطنية التي تُبنى على أسس من الحقيقة والاستقرار”.
ويشير نادر إلى أن التدخلات الخارجية تُفاقم المشهد السوري، موضحاً:
“هناك محاولات مستمرة لإعادة تشكيل المشهد بما يخدم أجندات خارجية، وهذا يعرقل وحدة السوريين. أهالي اللاذقية يطالبون بأن يُتخذ القرار وطنياً ومستقلاً، بعيدًا عن الابتزاز والنفوذ الخارجي. لا سبيل لتوحيد الكلمة إلا عبر الحوار الوطني الحقيقي، القائم على الصراحة والشفافية، الذي يضم الجميع دون استثناء ويقوم على قبول الآخر والاحترام المتبادل. بهذا فقط يمكن إدارة الخلافات والوصول إلى تفاهم يضمن الحقوق للجميع”.
اقرأ/ي أيضا: درعا.. أزمة اقتصادية ومعيشية تستدعي حلولاً مستدامة
ويضيف نادر أن أي حوار وطني يجب أن يكون بعيدًا عن المصالح الضيقة والأجندات الخارجية، وأن يُرفد بضمانات محلية ودولية تضمن تنفيذه وشفافيته، مع ضرورة بناء الثقة بين الأطراف أولاً. ويقول في ختام حديثه:
“أطمح أن يرى السوريون أنفسهم في وطنٍ موحد تسوده العدالة والمساواة، وأن يكون الحوار هو الوسيلة الدائمة لحل الخلافات. أريد للاذقية أن تكون نموذجًا للتعايش والسلام، وأن يسود فيها الأمان بعيدًا عن العنف والتطرف”.
إن واقع اللاذقية اليوم يعكس صورة الوطن بأكمله، حيث يظل غياب الحوار الوطني أحد أبرز معوقات الاستقرار. ومن خلال شهادات المعتقلين السابقين والنشطاء الحقوقيين، يتجلى أن أبناء المدينة يتطلعون إلى تجاوز المرحلة الراهنة ورفض التبعية لأي صراع خارجي، مؤمنين بأن الوحدة الوطنية لا تُبنى إلا على حوار صادق وشفاف، بعيدًا عن الإقصاء والتحيّز.
وفي الخلاصة، فإن الحوار الوطني ليس ترفاً سياسياً بل ضرورة وجودية لإعادة بناء الثقة بين السوريين، وترسيخ قيم العدالة والمساواة والحكم الرشيد. فبدونه تبقى الأزمة مفتوحة على كل الاحتمالات، أما بانطلاقه على أسس وطنية واضحة ومضمونة، فيمكن أن ينبثق أملٌ جديد يعيد إلى اللاذقية وسوريا كلها طريق السلام والتوافق الوطني، ويفتح الباب لمرحلة جديدة من الاستقرار والتنمية.
معن الجبلاوي- اللاذقية

