بشار عبود
حتى لو تمسّكت قوات سوريا الديمقراطية بستائر الكعبة ليثبت بالأدلة القطعية أن لا علاقة ولا تنسيق (عسكري أو مدني) يجمع بينه وبين حزب العمال الكردستاني، فإن تركيا برئاسة رجب أردوغان لن تقبل بتصديق ذلك. وإلا كيف ستقوم بتبرير هجماتها العدوانية، كلّما أرادت، على البُنى التحتية والمنشآت الخدمية والاقتصادية داخل سوريا، تلك التي يستفيد منها مواطنون سوريون مدنيون وآمنون؟
بمجرد إقرار تركيا عدم وجود ارتباط مسلّح بين قسد وحزب العمال، فإنها ستحكم على نفسها بالعجز ـ أقلّه قانونياً ـ، من استهداف أي موقع خارج حدودها، لذلك فإن ترسيخ تهمة الارتباط بين قسد وحزب العمال تُعتبر مسألة في غاية الأهمية بالنسبة لتركيا، فهي الوحيدة التي تمكّنها من شرعنة هجماتها على الشعب السوري عبر استغلالها للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تسمح للدول بضرب مواقع خارج حدودها إن تعرّض أمنها القومي للخطر!
شاهد/ي: الانشغال العالمي بحرب غزة وانتهاز النظام التركي لضرب الشمال الشرقي السوري
هذه واحدة من البديهيات الأساسية في السياسة التركية والتي لا بدّ من إدراكها جيداً لفهم حقيقة السلوك العدواني التركي المستمر على الأراضي السورية حيث بدأت حملة القصف الأولى في شهر أكتوبر الماضي ردّا على هجوم نفّذه حزب العمال الـ PKK، أمام مبنى وزارة الداخلية في العاصمة أنقرة، فيما انطلقت موجة الهجمات الثانية ردّاً على مقتل جنود أتراك داخل قاعدة عسكرية تركية شمال العراق. وقبلهما في 13 نوفمبر تشرين الثاني عام 2022، عندما وقع تفجير إرهابي في شارع الاستقلال بمدينة إسطنبول سارعت تركيا لاتهام قسد بضلوعها في التفجير، في حين نفت قوات سوريا الديمقراطية هذه الاتهامات جملةً وتفصيلا.
من خلال هذه الحوادث خارج الجغرافيا السورية، فإن إصرار تركيا الدائم على ربط قوات سوريا الديمقراطية بحزب العمال يأتي فقط من باب تبرير عملياتها العسكرية داخل سوريا وليس لوجود علاقة حقيقية بين قسد وتلك العمليات التي تتعرض لها تركيا في العراق أو داخل أراضيها أو في أي مكان في العالم، لكنه يؤكد في الوقت ذاته، أن الشعب السوري هو وحده من دفع ولا يزال يدفع الأثمان الباهظة لهذا الاتهام الذي لا يستند لأي حقائق على أرض الواقع.
الأراضي السورية بالنسبة لتركيا على ما تظهره الأحداث ليست فقط ساحة ردّ وانتقام على أي عمل عسكري يطال الأتراك، حتى لو لم يكن قوات سوريا الديمقراطية أي دخل فيها، وإنّما أيضاً وسيلة لتمرير رسائل أنقرة السياسية داخل وخارج تركيا. فهي من جهة لن تسمح لمجلس سوريا الديمقراطية بتقديم نموذج ناجح يمكن أن يقود لتغيير محتمل في سوريا ينهي هذا الاستعصاء الطويل في حلّ الأزمة السورية ويسمح بانتقال سلمي للسلطة يقوم على أُسس جديدة ومعايير جديدة وعقد وطني جديد خال من الاستبداد، ومن جهة ثانية، وقد يكون هذا باتفاق ضمني مع حكومات النظام السوري والعراقي والإيراني، بأنه لا يجب السماح بنجاح التجربة الكردية السورية في مشروعهم الوطني ضمن إطار الدولة السورية الواحدة، فهذا إن تم فإنه سيؤثر على وضع الأكراد جميعاً في الدول الأربعة التي يتوزع فيها الشعب الكردي، وهذا لن يكون في صالح هذه الدول التي اعتادت على قمع الأكراد في دولها.
اللافت في حجم العدوان التركي الأخير، ليس فقط في شراسة حجم استهداف البُنى التحتية والمنشآت الخدمية التي يستفيد منها المواطن العادي في عموم سوريا، فالضربات التركية لم تصل لأي موقع عسكري تابع لقسد، بل على العكس طالت الضربات مواقع يتواجد فيها النظام السوري وقتلت عددا من جنوده المتواجدينَ في المنطقة، لكن المُلفت في هذه الهجمات هو الصمت الدولي الرهيب حيال الاستهداف لمقدّرات الشعوب التي تسعى للتغيير الديمقراطي في بلدها بهذه الطريقة التي تقوم بها تركيا والتي قُدّرت حتى الآن بأكثر من مليار دولار وهذا الرقم قابل للزيادة مع مواصلة التصعيد العسكري.
اللافت أيضاً هو الصمت غير المبرّر والموقف غير الواضح للولايات المتحدة الأميركية حيال الهجمات التركية على مناطق تتواجد قواتها فيها مع قوات التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، ولذلك بات من واجب الولايات المتحدة الأميركية أن تكون أكثر وضوحاً وجدّية في إظهار موقفها تجاه هذا العدوان خصوصا وأنه يتم على مناطق قوات قسد التي خاضت أشرس المعارك ضد تنظيم “داعش” الإرهابي وأنهت وجوده في المنطقة. فهذا الهجوم على المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية هو بمثابة إعادة إحياء للتنظيم الإرهابي من جديد وأنه بدلاً من صمت واشنطن على الهجمات التركية عليها أن تحذّر أنقرة من مغبّة هذا العمل غير المحسوب والذي قد يُعيد خلط جميع الأوراق في المنطقة من جديد
إذا كانت تركيا تدرك، وهي تدرك بلا شك، أن الأحداث الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط قد تؤدي إلى تغيير خارطة التحالفات الإقليمية على المدى غير البعيد، وهي تستغل انشغال العالم بهذه الأحداث لتقوم بشن ضربات خارج حدودها من أجل فرض شروطها وتحقيق أهدافها ومخططاتها القومية، لكن عليها في الوقت نفسه أن تدرك أنها تواجه شعباً لن يسكت عن حقّه في الحياة والحرية والديمقراطية، وسيدافع عن حقوقه وأرضه بكل ما أوتي من قوة.
في البحث عن سُبلٍ للخروج من هذا المأزق، لا أعتقد أن أمام مجلس سوريا الديمقراطية انطلاقا من كونه حركة تحرر وطنية سورية رائدة، سوى دعوة الشارع السوري بكل مكوّناته من أجل تشكيل قوة ضغط شعبية وسياسية تتضامن فيما بينها للوقوف ضد هذه الاعتداءات التركية وغيرها من جهة وبما يساهم في تعزيز قدرات المجتمع المدني الديمقراطي ضد الاستبداد من جهة ثانية. فالرّد الأكبر على هذه الخروقات يكون عبر تقوية الجبهة الداخلية لكل مكوّنات الشعب السوري خصوصا وأنه يمرّ الآن بأصعب مراحل وجوده ولا سبيل للخلاص من كل هذا البؤس الذي هو عليه إلا عَبر تعزيز فكرة النضال السياسي المدني من أجل الوصول إلى وطن الحرية والكرامة المنشود.
بشار عبود
كاتب وسياسي سوري