بقلم: موفق نيربية
مع استمرار الأزمة السورية وتعقيداتها، برز «مسار ستوكهولم» كمبادرة فريدة تهدف إلى توحيد جهود القوى والشخصيات الديموقراطية في سوريا. نشأ هذا المسار دون اتفاق مسبق، متخذاً اسمه من العاصمة السويدية التي احتضنت أربعة لقاءات تشاورية كبيرة، برعاية مركز «أولف بالمه» والاشتراكيين السويديين. يتميز هذا المسار بطابعه الشامل والديناميكي، ساعياً إلى فتح حوار بنّاء يشمل مختلف الأطياف السورية.
من دون اتفاق مسبق، اتّخذ مسارنا من أجل تنظيم جهود القوى والشخصيات الديموقراطية في سوريا اسم «مسار ستوكهولم»، بعد أن عقد أربعة لقاءات تشاورية كبيرة في عاصمة السويد الجميلة، برعاية من مركز “أولف بالمه” والاشتراكيين السويديين. وكان لكلمة “مسار” وقعاً متواضعاً وديناميكياً أيضاً، لا يحتكر ولا يستثني أو يُقصي أحداً.
كان القصد عقد مؤتمر لهذا الهدف، يكون مفتوحاً ومبادراً بإيجابية للحوار بكلّ تفاصيله: الكردي- الكردي، والكردي- العربي، والسوري- السوري في المجمل والحصيلة.
كان إعلان دمشق لقوى التغيير الديموقراطي واحداً من أهمّ محاولات توحيد تلك القوى والشخصيات جميعها، أو معظمها على الأقل. وكان الاجتماع الوطني لذلك الائتلاف الذي تمّ التحضير له لما يقارب العام في 2006- 2007، نقطة تحول بنهج عمله وجهود التوافق فيه، لكنّه خرج من “مؤتمره” ذاك غير متفّق في المسار، وعلى أشياء معلنة بسيطة، وأشياء غير معلنة معقّدة، ثم قامت السلطة بالهجوم على شخصيات أساسية من قيادة ذلك المجلس واعتقالها.
اقرأ/ي أيضاً: دير الزور.. معركة الاستقرار وتحدي بناء المستقبل في قلب سوريا
انعكست تلك الأجواء المتوتّرة بين تلك القوى بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية ضمن أجواء الربيع في المنطقة، على محاولات تصنيع بؤرة التقاء للمعارضة القديمة كي تنفع الشبّان الثوار في ثورتهم السلمية، وتساعد على خلق قيادة سياسية متفق عليها. كما ساعدت الخلافات نفسها القوى الكردية على الافتراق النسبي عن القوى والتجمعات الأخرى، ومن ثمّ تأخّر أو ضعف ظهور العمل الموحّد.
كان التأثير المدمّر في خريف 2011 على طريقة تشكيل المجلس الوطني السوري، الذي انحاز قسم من القوى الديمقراطية فيه لإقصاء القسم الآخر والتحالف مع الإسلاميين، لينزل درجة إلى الوراء أو الأسفل، ويفسح المجال للأخيرين ليكونوا القسم الغالب والظاهر، بمعونة من القوى الإقليمية التي حاولت حجز جزء أكبر من جلد الدبّ قبل سلخه.
ظهرت معارضة رسمية جديدة رحبّ بها العالم، لكنّها تحوّلت إلى “جبهة رفض” لكلّ شيء، لا ترى طريقاً إلّا التدخّل الخارجي، والروح الانتقامية الثأرية. فحلّ “الائتلاف” مكان “المجلس” تحت الضغط الغربي، والتنفيذ الإقليمي، الذي نجح مرة ثانية بتشويه البنى الناتجة ومن ثمّ تلغيمها.
ذلك ظرف موضوعي أدّى إلى تهميش القوى الديمقراطية واختزال دورها إلى حصة صغيرة لا حول لها ولا قوة. ثمّ تمّ إفشال كلّ المحاولات لترميم ذلك التشوّه، بقوة القوى الإقليمية نفسها والتفافها على تلك المحاولات، وبدعم الأطراف الانتهازية الطارئة على السياسة ومع الأطراف الإسلاموية، كما حدث في “توسعة الائتلاف” صيف 2013. حدث ذلك رغم ما تحقق بشكلٍ موازٍ من إدماج قسم هام من القوى الكردية بعد عقد اتفاقية جيدة مع الائتلاف، ورغم محاولة قسم من الإسلاميين وآخر من “الديمقراطيين” عرقلة تمريرها.
وبقي عامل الضعف الأكبر هو ضعف تمثيل ودور القوى الديمقراطية/ العلمانية، على الرغم من كونها تمثّل شرائح واسعة من المجتمع السوري، وليس في المدن الكبرى وحدها. فابتدأ البحث عن وحدة تلك القوى والشخصيات وتنظيم قدراتها وتوسيعها منذ سنوات، تحت ضغط المعارضات الرسمية ومحاربتها، وضغط النرجسية التي لا تغيب من بين صفوف النُّخب إطلاقاً. فكان أن فشلت معظم تلك المحاولات في البداية. حتى وصلنا إلى مسارنا هذا.
اعتمد «مسار ستوكهولم» على وجود دعم وتفهّم من أطراف منفتحة في السويد، مع تشجيع من قوى أخرى أيضاً. وذاتياً كانت الخطوة الرئيسة هي الاعتقاد بأن أيّ عمل نقوم به سيبقى سابحاً في الهواء ما لم يكن له وجود ودعم على الأرض، الأمر الذي التقى في الوقت نفسه مع سياسات مجلس سوريا الديمقراطية، التي وضعت هدفاً ثابتاً أمامها هو الانطلاق من الانتماء إلى سوريا الواحدة، ومع القوى المتنوعة الأخرى، من أجل الانتقال من حالة الاستبداد المستدامة إلى دولة ديمقراطية حديثة.
أعاقت وقاومت تلك الخطوة- ولا تزال- قوى مرتبطة بقوى إقليمية قوية- تركيا العدالة والتنمية على الخصوص- وطبّقت ضغوطاً على القوى السورية والدولية الأخرى لمنع اتجاهنا هذا، الأمر الذي أعاقه جزئياً بالفعل. لكننا نظرنا إلى المعوّقات بطريقة جدلية لنحاول تذليلها مسبقاً فنضعف احتمال أن تكون ألغاماً في طريقنا.
اقرأ/ي أيضاً: الهوية السورية.. جسور التنوع في مواجهة أمواج التطرف
من أجل ذلك قمنا بتنفيذ برنامج لتجاوز المطبّات واحداً تلو الآخر، وعقدنا أربعة لقاءات تشاورية في ستوكهولم ضمّ كل منها العشرات من السوريين. بحثنا في مشكلة الهوية والقضيّة الكردية ومسألة العلاقة بين الدولة والدين، إضافة إلى ضرورة المبادئ التوافقية المسبقة للدولة القادمة في المستقبل: وصلنا إلى ضرورة اعتماد الهويّة السورية التي تجعل من “الجمهورية السورية” وطناً نهائياً موحداً للسوريين؛ وإلى أن منعَ عودة الاستبداد بكلّ أشكاله لاحقاً وتفهّم الهواجس وتقديم الضمانات يستلزم حكماً أن تكون سوريا التي نريد لامركزية كالكثير من دول العالم المتقدّمة؛ وكذلك إلى أن الفصل ما بين الدين والدولة واحترام الأخيرة لكلّ الأديان وحيادها أمامها شرط لازم بدوره أيضاً. يستلزم ذلك اعتبار التوافق المسبق على مبادئ دستورية تطمئن الجميع وتستجيب لمتطلبات الحداثة والتقدّم شرطاً ضرورياً ولازماً.
حقق مسار ستوكهولم ذلك كلّه، ثم انتقلنا إلى المراحل العملية، في أجواء سياسية متوتّرة بل متفجّرة بين فترة وأخرى، في سوريا نفسها وإقليمياً ودولياً.
كانت الأجواء السورية غائمة تحت وقع التفتّت والتجزئة إلى أقسام تتباعد بالتدريج، وتحت تدخّلات خارجية لم تعد ترى في مصلحة السوريين واحداً من عناصر سياستها، بل تصل مراراً إلى التدخّل الفظّ عسكريا كما حدث من الجانب التركي. ومن جهة أخرى كانت التدخّلات الإيرانية بحرسها الثوري وميليشياتها ومحاولاتها التبشيرية تعمل على إثارة المعارك في كلّ مكان بالتنسيق مع النظام وخصوصاً في شرق سوريا، مع جهدها للإقامة الأطول في سوريا، ولتأمين طريق لبنان لها ولحزب الله.
لذلك انصبّ الاهتمام أيضاً على البحث في العملية السياسية ومستقبلها وطرق تنشيطها وتطبيق القرار 2254، وما يمكن أن يضمن وحدة سوريا وإعادة وصل ما انقطع بين أجزائها.. وتلك مهمة صعبة لأنّ وراء كلّ أكمة ما وراءها، لكنها ليست مستحيلة، وهي هدف متقدّم بين أهداف مسارنا هذا، ومؤتمرنا هذا.
أن “مسار ستوكهولم” يسعى جاهداً لتحقيق رؤية شاملة لسوريا الموحدة والديمقراطية. نطلب التفهّم والمشاركة من جميع الأطراف السورية، ونشدد على أنّنا لسنا بديلاً عن أحد، بل داعمون لكل ما يخدم وحدة سوريا والسوريين. نلتزم بتشجيع الحوار الشامل وتعزيز هذا المسار مع كافة القوى السورية، آملين في عقد مؤتمر وطني عام يشكّل نقطة تحول في القضية السورية. نؤمن بأن الحل يجب أن يكون “بقيادة سورية”، ونسعى لزيادة دور السوريين في تقرير مصير بلدهم، من أجل إعادة توحيد سوريا وبناء مستقبل مشرق لها.