بقلم: إسماعيل محمد
تمثل محافظة دير الزور، بموقعها الاستراتيجي وثرواتها الطبيعية، نقطة محورية في المشهد السوري المعقد. هذه المنطقة، الممتدة على ضفاف نهر الفرات، ليست مجرد رقعة جغرافية، بل هي موطن لنسيج اجتماعي متنوع وتاريخ عريق يمتد لآلاف السنين. سكان دير الزور، الذين ذاقوا مرارة الحرب والحصار، يتطلعون اليوم بأمل وإصرار نحو مستقبل يضمن لهم الأمن والاستقرار والكرامة التي طال انتظارها.
في خضم الصراع الدائر في سوريا، برزت دير الزور كساحة لتنافس إقليمي ودولي محموم، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى وطموحاتها. فالمحافظة، بما تحتويه من حقول نفطية وأراضٍ زراعية خصبة، وبموقعها الاستراتيجي على الحدود العراقية، تمثل هدفاً استراتيجياً للأطراف المتصارعة. هذا الواقع جعل من دير الزور محط أنظار القوى الإقليمية والدولية، وهدفاً لمحاولات متكررة لزعزعة استقرارها وتقويض الجهود الرامية لبناء نموذج حُكم محلي يلبي تطلعات سكانها.
شهدت المنطقة مؤخراً تصعيداً خطيراً تمثّل في هجوم منسّق من قبل تحالف ثلاثي ضم تركيا وإيران والنظام السوري. هذا التحالف، رغم تباين أهدافه الاستراتيجية، وحد جهوده في محاولة لإضعاف سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وتقويض نموذج الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا. وتعكس هذه الخطوة تعقيدات المشهد السوري، حيث تتشابك المصالح الجيوسياسية مع الطموحات الإقليمية في نسيج معقّد من التحالفات والصراعات.
تنوعت دوافع الأطراف المشاركة في هذا الهجوم المنسق. فتركيا، التي تسعى لتوسيع نفوذها في المنطقة، لعبت دوراً محورياً في التخطيط والتنسيق، مستغلّة شبكة علاقاتها المحلية لإثارة الفتنة وزعزعة الاستقرار. وتهدف أنقرة من وراء ذلك إلى إضعاف الإدارة الذاتية وتعزيز موقعها التفاوضي في المعادلة السورية. أما إيران، فتسعى جاهدة لتأمين ممر برّي استراتيجي يربطها بحلفائها في سوريا ولبنان، وعلى رأسهم حزب الله، مما يعزز نفوذها الإقليمي ويضمن استمرار تدفق الدعم اللوجستي والعسكري لحلفائها. وفي المقابل، يحاول النظام السوري استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية، مدعوماً بحليفته روسيا، في محاولة لاستعادة شرعيته الدولية وتعزيز موقفه في أي تسوية مستقبلية.
اقرأ/ي أيضاً: الهوية السورية.. جسور التنوع في مواجهة أمواج التطرف
غير أن الرّد الشعبي الحاسم في دير الزور، مقروناً بالتنسيق الفعّال بين قوات سوريا الديمقراطية والتحالف الدولي، أدى إلى إفشال هذه المخططات. وقد برز دور العشاتر والمجتمع المحلي بكافة مكوناته في الوقوف صفاً واحداً مع قوات قسد، مما يعكس عمق التلاحم المجتمعي في مواجهة التهديدات الخارجية. هذا الموقف الموحد يشكل رسالة قوية مفادها أن سكان المنطقة قد سئموا الصراعات وباتوا يتطلعون إلى بناء مستقبل يقوم على التعايش والحكم الرشيد.
في هذا السياق، كثّف مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) جهوده الدبلوماسية والسياسية لمواجهة التحديات الراهنة. وقد تجلى ذلك في المبادرات العديدة لتعزيز الحوار المجتمعي وتحسين الخدمات الأساسية والسعي لتحقيق تمثيل سياسي عادل لكافة مكونات المجتمع. وتبرز في هذا الإطار الزيارة التي قام بها وفد رفيع المستوى من المجلس إلى دير الزور، حيث عقد لقاءات مكثفة مع شيوخ ووجهاء المنطقة. هذه الخطوة تعكس إدراكاً عميقاً لأهمية تعزيز اللحمة الوطنية وبناء جسور الثقة بين مختلف مكونات المجتمع المحلي.
إن الأحداث الأخيرة في دير الزور تسلط الضوء على حجم التحديات الهائلة التي تواجه الإدارة الذاتية الديمقراطية وقوات سوريا الديمقراطية. فهم يقفون في مواجهة تهديدات متعددة الأوجه، بدءاً من الهجمات التركية المتكررة على البنى التحتية والمنشآت الاقتصادية الحيوية، مروراً بالحرب المستمرة ضد خلايا تنظيم “داعش” النائمة، وصولاً إلى التصدي لمحاولات التوغل من قبل ميليشيات النظام وإيران. هذا الواقع المعقّد يفرض تحديات جمة على صعيد الأمن والتنمية والحكم المحلي.
وبالنظر إلى هذه التحديات، يصبح من الواضح أن الاستقرار الذي حققته قوات سوريا الديمقراطية في المنطقة يمثل إنجازاً كبيراً في حد ذاته. فقد نجحت هذه القوات، وباسناد من التحالف الدولي، في تحرير دير الزور من قبضة تنظيم “داعش” الإرهابي، وأرست دعائم الأمن والاستقرار في ظروف بالغة التعقيد. هذا الإنجاز لم يكن ليتحقق لولا التضحيات الجسام التي قدمها أبناء المنطقة والتعاون الوثيق بين مختلف مكونات المجتمع المحلي.
وفي سياق الحديث عن الإدارة الذاتية، لا بدّ من الإشارة إلى الدور المحوري الذي تلعبه في إدارة شؤون المنطقة. فقد نجحت هذه الإدارة، رغم التحديات الهائلة، في تأسيس نموذج حكم محلي يقوم على مبادئ المشاركة والتمثيل العادل لمختلف المكونات. وتتجلى أهمية هذا النموذج في قدرته على توفير الخدمات الأساسية للسكان، وإدارة الموارد المحلية بشكل يخدم مصالح المجتمع، وتعزيز التعايش السلمي بين مختلف الفئات الاجتماعية.
اقرأ/ي أيضاً: الوطنية في سوريا.. رؤية جديدة للمستقبل
إن تجربة الإدارة الذاتية في دير الزور، رغم ما تواجهها من تحديات، تمثل نموذجاً واعداً لمستقبل سوريا. فهي تقدم مثالاً حيّاً على إمكانية بناء نظام حكم يستجيب لتطلعات المواطنين ويحترم التنوع الثقافي والاجتماعي. وفي ظل غياب حل سياسي شامل للأزمة السورية، تبرز هذه التجربة كنموذج يمكن البناء عليه لتحقيق الاستقرار والتنمية في مناطق أخرى من سوريا.
وفي الختام، فإن مستقبل دير الزور، ومعها مستقبل سوريا بأكملها، يعتمد بشكل كبير على قدرة القوى المحلية والإقليمية والدولية على تجاوز الخلافات والعمل معاً من أجل تحقيق السلام والاستقرار. إن الصمود الذي أظهره سكان دير الزور، والنموذج الذي قدمته قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، يشكلان أساساً متيناً يمكن البناء عليه لتحقيق تطلعات الشعب السوري في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
فدير الزور اليوم، بما تمثله من أهمية استراتيجية وثقل اقتصادي، تقف على مفترق طرق. والخيار الآن بين الانزلاق مجدداً إلى دوامة العنف والصراع، أو المُضي قدماً نحو بناء مستقبل يقوم على التعايش والتنمية المستدامة. وفي هذا السياق، يبقى دور المجتمع الدولي حاسماً في دعم جهود الاستقرار وإعادة الإعمار، وضمان احترام إرادة الشعب السوري في تقرير مصيره.
إن التحديات التي تواجه دير الزور اليوم هي في جوهرها تحديات تواجه سوريا بأكملها. والنجاح في تجاوز هذه التحديات سيمهد الطريق نحو مستقبل أكثر إشراقاً، ليس فقط لسكان المنطقة، بل لجميع السوريين. فمن رحم المعاناة والصراع، يمكن أن تولد فرصة حقيقية لبناء سوريا جديدة، قائمة على أسس العدالة والمساواة واحترام التنوع. وفي هذا المسعى النبيل، ستبقى دير الزور، بموقعها وتاريخها وشعبها، في قلب المعركة من أجل مستقبل أفضل لسوريا والمنطقة بأسرها.
إسماعيل محمد
نائب الأمين العام لحزب البناء والتطوير السوري