بقلم: ليلى موسى
شهدت الساحة اللبنانية تطورات متسارعة تمثّلت في خسائر كبيرة مُني بها حزب الله من قياداته في الصف الأول، مع تدمير واسع للبنية التحتية وما رافقها من عمليات هجرة ونزوح جماعي سواء إلى الداخل اللبناني أو الخارج، وخاصة إلى سوريا والعراق. واللافت في هذه التطورات استخدام تقنيات عسكرية وتكنولوجيا متطورة، بالإضافة إلى الحرب السيبرانية التي اخترقت صفوف قيادات حزب الله ووجّهت ضربة موجعة لهم، بعدما كانوا أهدافاً مرصودة ومراقبة بدقة، مما أدى إلى شلّ قدرات الحزب بشكل كبير خلال فترة زمنية قصيرة مقارنة بالحرب الإسرائيلية على غزة.
ويعود ذلك إلى انشغال الرأي العام العالمي بالانتخابات الأمريكية، وأهمية توجيه ضربات موجعة للحزب لشلّ قدراته على التصدي، نظراً لما يشكّله من قوة تنظيمية وقدرات عسكرية مقارنة بباقي أذرع إيران في المنطقة.
لعبت هذه المستجدات دوراً كبيراً في تغيير موازين القوى، وخاصة مع فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية المعروف بدعمه اللامحدود لإسرائيل. دفعت أولوية المصالح الأمريكية بعض القوى والدول إلى إعادة النظر في حساباتها تجنباً لمصير مشابه لما حدث للسنوار وهنية ونصر الله، خاصة أن ترامب عُرف بقراراته الثورية خلال فترة رئاسته الأولى. وقد شدد في برنامجه الانتخابي على إنهاء الحرب، مما مكّنه من استقطاب الجالية العربية والمسلمة المؤيدة للقضية الفلسطينية، لكن السؤال يبقى: لمصلحة من ينهي الحرب وكيف؟
اقرأ/ي أيضاً: المسار الديمقراطي السوري.. رؤية للحل وخطوة أولى على الطريق
لم تكن سوريا بمنأى عن الحرب الإسرائيلية في غزة، ومؤخراً على حزب الله، بالرغم من أن سلطات دمشق اختارت سياسة النأي بالنفس وعدم الانخراط في هذه الحرب على خلاف الأطراف الأخرى من محور المقاومة. بل وُجهت إليها في بعض الأحيان أصابع الاتهام بالتورط في إعطاء الإحداثيات للإسرائيليين، خاصة بعد استهداف القنصلية الإيرانية بدمشق. وبحسب مصدر في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، فإن الأجهزة الأمنية الإيرانية رفعت تقريراً للمجلس بشأن احتمال ضلوع السلطات السورية في اغتيالات كبار قادة الحرس الثوري في سوريا.
لم يعد بمقدور سلطات دمشق الاستمرار في اتخاذ موقف الحياد الذي اتخذته في حرب غزة. فالحرب اللبنانية المفروضة عليها الآن تفوق قدراتها وإمكانياتها، في ظل السيطرة والقبضة الحديدية للحزب داخل سوريا. وبالرغم من تعطيل إسرائيل لعمل المعابر بين سوريا ولبنان وقطع الطريق أمام عناصر الحزب لنقل السلاح إلى الداخل اللبناني، إلا أنها لم تنجح في تقليل نفوذ الحزب وسيطرته على الأرض.
صعّدت إسرائيل من لهجتها ضد الأسد، وحذرته من ضرورة منع الحزب من نقل السلاح. لكن السؤال: هل بمقدور الأسد الاستجابة لذلك الطلب أم سيستمر في نهج الحياد؟ قد يختار الأسد ترك سوريا ساحة مفتوحة أمام الضربات الإسرائيلية كخيار أفضل للبقاء في الحكم، مع مزيد من استنزاف سوريا التي تعاني أساساً من نزيف على مدار سنوات الأزمة، بدلاً من التخلي عن حليف استراتيجي وتعريض نفسه لمصير مشابه لقادة محور المقاومة.
أما إسرائيل، فهل ستكتفي بتوجيه الرسائل وممارسة الضغوط عبر روسيا لإخراج دمشق من العباءة الإيرانية وتجنب فتح جبهة ثالثة؟ يبدو أن الأولوية الإسرائيلية تتجه نحو السيطرة على الضفة الغربية بعد غزة، وإضعاف حزب الله لتأمين حدودها الجنوبية. وقد ظهرت نوايا إسرائيل جلية في هذا الخصوص، ففي يوم انعقاد القمة العربية والإسلامية في الرياض للتباحث في الحرب، صرّح وزير المالية الإسرائيلي اليميني، بتسلئيل سموتريتش، عن الاستعداد لضم المستوطنات في الضفة الغربية، مؤكداً إصدار تعليمات لوزارته بإعداد البنية التحتية اللازمة لفرض السيادة.
تواصل أذرع المقاومة العراقية توجيه ضرباتها لقوات التحالف في سوريا والعراق وللداخل الإسرائيلي، انتقاماً لدعمها لإسرائيل، مؤكدة استمرار موقفها المقاوم وعدم حياديتها، خاصة فصائل المقاومة الإسلامية (حزب الله العراقي والنجباء).
يبقى الحوثيون الهدف القادم لإسرائيل في المرحلة المقبلة، نظراً لما يشكلونه من تهديد لأمن الملاحة في البحر الأحمر اقتصادياً والأمن القومي لدول الخليج عموماً، مما دفع هذه الدول للانخراط في ضرب مواقعهم.
اقرأ/ي أيضاً: عن هجمات تركيا الأخيرة
يمثل مجيء ترامب مصلحة أمريكية-عربية، وتحديداً خليجية، مع تكامل المصالح والعلاقات الجديدة: أمريكا تؤمن الحماية، والخليج يقدم المال، وقد كان ترامب واضحاً في سياساته بهذا الخصوص. والسؤال الآن: هل سنشهد إعلان صفقة التطبيع السعودي-الإسرائيلي؟ وهل وصلت اتفاقيات إبراهام إلى ذروتها، خاصة بعد القفزة الأولى في مسار التطبيع خلال ولاية ترامب الأولى؟
تبدو الظروف ناضجة لمصلحة مشروع الشرق الأوسط الكبير/الجديد، وهو ما دفع أردوغان مراراً إلى التحذير من الخطر الإسرائيلي ومحاولات السيطرة على سوريا والأناضول. وتنبع هذه المخاوف من تهيئة الظروف لمصلحة الاتفاقيات الإبراهيمية، مما يشكل تهديداً لأمن ووجود الإسلام السياسي بشقّيه السُّني بقيادة أردوغان والشيعي بقيادة خامنئي.
تُظهر إيران براغماتية وحنكة أكبر في خطواتها، مدركة التغيير القادم في المنطقة. وتعمل على إجراء تعديلات شكلية بعد الانتخابات الرئاسية، كوصول رئيس إصلاحي للحكم وتعيين نائب كردي وتولي سيدات مناصب قيادية لأول مرة، لكن جوهر النظام لم يتغير مع بقاء الصلاحيات المطلقة بيد المرشد الأعلى.
أما تركيا، فتبدو في حالة تخبط واضحة: يخاطب أردوغان تارة المشاعر القومية والدينية محذراً من خطر إسرائيل ودعمها لكردستان الكبرى، وتارة أخرى يتحدث عن حلّ القضية الكردية وانطلاق مرحلة السلام مع السيد أوجلان عبر حليفه بهجتلي، بينما يحارب الديمقراطية بإقالة رؤساء البلديات الكردية الفائزين في آخر انتخابات. كما تتواصل المساعي لإجراء انتخابات مبكرة وتعديلات دستورية لضمان ترشح أردوغان لولاية ثالثة.
أمام هذا المشهد المعقد، تبقى تساؤلاتٍ ستتضح إجاباتها في الأيام القادمة. نحن أمام شرق أوسط جديد يتطلب خرائط ونظم حكم جديدة. فهل ستتمكن دول ما بعد سايكس بيكو، وخاصة تركيا وإيران، من الصمود ومواجهة المستجدات وتحقيق مكاسب للهلال الشيعي أو العثمانية الجديدة واستمرار سيطرة أذرعهما في المنطقة؟ أم سنشهد شرقاً أوسط جديداً بقيادة عربية، وإسرائيل موسعة، ونظم حكم لامركزية تشمل إيران وتركيا.