بقلم: افرام إسحاق
تُعَدُّ منطقة شمال وشرق سوريا نموذجاً فريداً للتنوع القومي والديني، حيث تتشابك الثقافات والتقاليد المختلفة ضمن إطار جغرافي واحد لتُشكِّل لوحة فسيفساء اجتماعية غنية بالتاريخ والهوية. تمتاز المنطقة بتعدد مكوناتها القومية والدينية، من العرب والكرد والسريان الآشوريين إلى الإيزيديين والأرمن والتركمان، مما يجعلها أحد أبرز النماذج التعايشية في الشرق الأوسط.
تاريخياً، لعبت هذه المنطقة دوراً هاماً كميدان تفاعل حضاري بين شعوب مختلفة، حيث ساهمت تعدديتها القومية والدينية في تعزيز التكامل والتعاون بدلًا من الانقسام. السريان الآشوريون ورثة حضارة تمتد إلى عصور ما قبل الميلاد، يشتهرون بإسهاماتهم في العلوم والثقافة، فضلًا عن لغتهم السريانية التي تعد إحدى أقدم اللغات الحيّة. وهم مثل الشعوب الأخرى يحبون الحياة ويدافعون عن السلام والعيش المشترك، وكذلك الكرد، قدموا إسهامات كبيرة في مجالات العلوم والثقافة، وما زالوا يحافظون على لغتهم فالكرد يتميزون بتراثهم الفني والثقافي العريق الذي يشمل الموسيقى والشعر واحتفالاتهم التقليدية مثل نوروز، التي تعكس روحهم المقاومة وانتماءهم القومي.
من جهة أخرى، يجسد العرب في المنطقة جزءاً أساسياً من الموزاييك الثقافي بتقاليدهم العريقة واحترامهم القيم القبلية والعشائرية. وفي المقابل، يتميز الإيزيديون بتقاليدهم الروحانية الخاصة التي تعبّر عن ارتباطهم الوثيق بالطبيعة والإنسان. الأرمن والتركمان، بدورهم، يثْرون هذا التنوع من خلال عاداتهم وموروثهم الثقافي الذي امتزج مع ثقافات المنطقة على مرّ التاريخ، مما أسهم في تعزيز الروابط بين مختلف المكونات.
هذه العناصر مجتمعة شكلت مجتمعاً غنياً بالتنوع، حيث باتت الاحتفالات والمناسبات المشتركة تعبيراً عن روح التعايش. لا يمكن إغفال دور اللغة كوسيلة للتواصل بين هذه الشعوب، حيث ظهرت صيغ تعبيرية متعددة تعكس الانفتاح الثقافي والتاريخ المشترك بين المكونات المختلفة.
اقرأ/ي أيضاً: المرحلة الانتقالية وأهمية مشاركة المرأة السورية في العمل السياسي ومواقع صنع القرار
رغم الإرث الحضاري العريق للمنطقة، عانت شعوب شمال وشرق سوريا لعقود طويلة من سياسات التهميش والإقصاء في ظل النظام السابق، حيث تعرضت مكوناتها المختلفة لمحاولات طمس هويتها الثقافية واللغوية، مما شكّل تهديداً حقيقياً لنسيجها الاجتماعي المتنوع. لكن مع نجاح هذه المكونات في تأسيس الإدارة الذاتية وتوحيد صفوفها في إطار مشروع مشترك يحفظ حقوق الجميع، بدأت أطراف خارجية ومحلية بمحاولات حثيثة لزعزعة هذا التعايش وبث الفرقة بين مختلف المكونات، سعياً منها لتقويض التجربة الديمقراطية الفريدة التي جمعت شعوب المنطقة تحت مظلة واحدة تحترم خصوصية كل مكون وتحمي تراثه.
في مواجهة هذه التحديات، تسعى الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا إلى تعزيز التعددية الثقافية والقومية من خلال سياسات واضحة تعكس التزامها بحماية هذا التنوع. تعمل هذه السياسات على حماية اللغات المحلية من خلال إنشاء مدارس ومراكز تُدرّس فيها اللغات الكردية والسريانية إلى جانب اللغة العربية، كما تهتم بإحياء التراث عبر تنظيم مهرجانات وفعاليات ثقافية تسلط الضوء على تنوع التراث المحلي. تسعى الإدارة أيضاً لتوثيق التاريخ المشترك للمكونات المختلفة بهدف مواجهة محاولات التشويه.
تضمن الإدارة الذاتية تمثيلاً عادلاً لجميع المكونات في الهيئات السياسية والإدارية، مما يعزز من قدرتها على العمل المشترك لبناء مستقبل أكثر انسجاماً. تعمل الإدارة على تشجيع التفاهم المتبادل بين المكونات من خلال برامج تعليمية وحوارات مفتوحة تعزز قيم التعاون والاحترام. كما تُطلق مبادرات مجتمعية تهدف إلى دعم الفئات الأكثر تضرراً من النزاعات، مثل النازحين وضحايا التهميش.
المنطقة، ورغم الصعوبات، تبعث برسائل إيجابية حول إمكانية تحويل التعددية إلى قوة دافعة. تبرز أهمية الاستثمار في الشباب من جميع المكونات، فهم العمود الفقري لمستقبل المنطقة. المبادرات الشبابية تُعدّ من أبرز الأدوات لتجديد الروابط بين المكونات وتعزيز روح الإبداع والانتماء المشترك.
اقرأ/ي أيضاً: سوريا ما بعد التغيير.. نموذج الإدارة الذاتية ومستقبل الحوار الوطني
إن حماية التنوع الثقافي والاجتماعي في شمال وشرق سوريا ليست مسؤولية محلية فقط، بل هي مسؤولية وطنية لضمان استمرار نموذج فريد يمكن أن يُلهم مناطق أخرى. تعكس الجهود المبذولة صورة مجتمع مقاوم للانقسام ومتمسك بجذوره الثقافية. من خلال التعايش السلمي والحوار المفتوح، يمكن للمنطقة أن تقدم للعالم مثالاً حياً على كيفية تحويل التحديات إلى فرص لبناء مجتمع أكثر استقراراً وعدالة.
بفضل جهود المكونات المختلفة، تستمر هذه المنطقة في تقديم مثال حي على أن التعددية ليست عائقاً، بل عامل قوة يعزز استقرار المجتمعات ويؤسس لمستقبل قائم على الاحترام المتبادل والتعاون. يبقى الأمل معقودًا على الإرادة الجماعية للحفاظ على هذا التنوع وتحويله إلى مصدر إلهام للمناطق الأخرى في سوريا.
افرام إسحاق
قيادي في حزب الاتحاد السرياني ونائب الرئاسة المشتركة لمجلس سوريا الديمقراطية