بقلم: ليلى موسى
يستذكر السوريون اليوم ذكرى ثورتهم الرابعة عشرة، التي انطلقت في مثل هذه الأيام قبل سنوات، عندما خرجوا إلى الشوارع مطالبين بالحرية والكرامة والعدالة، في محاولة جادة لإرساء دعائم ديمقراطية تنهي عقوداً من الاستبداد والتسلط. لقد كانت ثورتهم بمثابة صرخة ضد الديكتاتورية، وطموحاً لبناء دولة جديدة تقوم على أسس من التعددية السياسية والعدالة الاجتماعية.
اليوم، يأتي الاحتفال بهذه الذكرى في سياق مغاير، حيث يعيش السوريون في واقع مختلف عن السنوات الماضية، واقع يحمل في طياته مرارة الفشل والأمل في التغيير. يحتفلون في هذه الذكرى بسوريا جديدة، سوريا التي نأوا بها عن حكم الأسد وسلطويته المتجذرة، ولكنهم في الوقت نفسه يواجهون مشاعر متباينة من الفرح والحذر، بين التفاؤل العابر والمخاوف العميقة من مستقبل مجهول.
في الذكرى الرابعة عشرة للثورة، وبعد أكثر من عشر سنوات على انطلاق الحراك الشعبي، يجد السوريون أنفسهم أمام تساؤلات مفصلية لم تكن حاضرة بقوة في البداية. هل نجحت الثورة في تحقيق أهدافها بإسقاط الأسد ونظامه؟ وهل كانت المشكلة الحقيقية في شخص الرئيس أم في بنية النظام نفسه؟ هل تغيرت سوريا بالفعل أم أن التغيير كان شكلياً فقط؟ هل يمكن القول بأن عهد الاستبداد قد انتهى أم أن النمط السلطوي قد تغير فقط ليظهر في ثوب جديد؟ هذه الأسئلة وغيرها من التساؤلات تؤرق السوريين الذين ما زالوا يبحثون عن أجوبة حقيقية لما مرّوا به خلال سنوات من المعاناة والصراع.
اقرأ/ي أيضاً: ثورة سوريا.. تحديات مستمرة ومسار طويل نحو التغيير
هذه التساؤلات لا تأتي من فراغ، بل هي نتيجة لحالة من الإحباط واليأس التي تسود بين فئات واسعة من الشعب السوري. واقعٌ موازٍ فرضته ممارسات حكومية لا تقتصر على الفشل في حلّ القضايا العالقة، بل تتجاوزها إلى ممارسة انتقامية واسعة وانتهاكات قانونية جسيمة. فعلى سبيل المثال، شهدنا مؤتمرات عدة مثل مؤتمر “النصر” ولجان متتالية مثل لجنة “الحوار الوطني” ولجنة “إعلان الدستور”، التي أثبتت جميعها أنها لم تُنتج الحلول المرجوة. وفي الوقت الذي تمت فيه الموافقة على دستور مؤقت، تم منح صلاحيات مطلقة لرئيس الجمهورية، وهو ما يعكس استمرارية النهج السلطوي ويزيد من شكوك السوريين.
ما يزيد من حدّة القلق هو استمرارية سياسات الانفراد بالقرار وفرض النموذج الواحد على كافة مكونات الشعب السوري.
كان الهدف من هذه السياسات هو “ضبط الفوضى” والحفاظ على “وحدة البلاد”، إلا أن هذا الأسلوب فشل في استيعاب التنوع السوري، بل كان مسبباً رئيسياً في التهميش والإقصاء. فمن خلال سياسات الإقصاء، تم تعزيز سلطوية حكومية لا تُراعي التطلعات الحقيقية للمواطنين، ولا تعالج القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعاني منها الشعب السوري في مختلف المناطق. هذه السياسات، بدلاً من أن تكون نقطة انطلاق لإصلاح حقيقي، أظهرت عجزاً واضحاً عن تقديم حلول جذرية ومستدامة للمعضلات التي يعاني منها المجتمع السوري.
إن ما تمخض عن هذه السلطة المؤقتة من قرارات، كان يعكس في جوهره عقليّة عتيقة تستند إلى مفاهيم الماضي، وتفتقر إلى القدرة على التكيف مع التغيرات التي تمرّ بها المنطقة. فقد كرّست السياسات التي تم اتباعها مفاهيم الاستبداد والعنف، بينما كان يجب أن تؤسس الثورة لنظام سياسي جديد قائم على قيم الديمقراطية والمساواة. كان من الواجب أن تُمهد الثورة لخلق بيئة سياسية تشجع على بناء مجتمع جديد يعزز التعددية السياسية، بعيداً عن تكرار نماذج الماضي.
هذه الرؤية لا تقتصر على مناطق شمال وشرق سوريا فقط، رغم أن هذه المناطق قد شهدت ثورتهما الخاصة في عام 2004. ففي تلك الفترة، شهدت المنطقة تجربة ثورية رغم الظروف المعقدة التي كانت تحيط بها. لكن تلك التجربة، رغم قسوتها، كانت نقطة انطلاق للثورة السورية في عام 2011. لقد كانت مناطق شمال وشرق سوريا، من خلال “الخط الثالث”، تؤكد أن الأزمة السورية تكمن في بنية النظام الحاكم الذي أنتج الاستبداد، الذي ما زال يعشعش في مفاصل الدولة. لذلك، فإن الحلّ الجذري لا يكمن في إسقاط الأشخاص بل في تغيير هيكل النظام ذاته.
اقرأ/ي أيضاً: انتفاضة قامشلو… شرارة الثورة السورية الأولى
إن الحل الوحيد والأنسب للأزمة السورية يتمثل في إقامة حوار سوري – سوري شامل. حوار يستوعب جميع المكونات السورية دون استثناء أو إقصاء. هذا الحوار يجب أن يهدف إلى صياغة دستور جديد يعكس تطلعات الشعب السوري في الحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة. نجاح هذا الحوار هو السبيل الوحيد لتحقيق السلام الحقيقي والاستقرار في البلاد، وهو ما سيضمن وحدة البلاد وسلامة سيادتها. كما أنه سيمثل درعاً حقيقياً ضد التدخلات الخارجية ويكون بمثابة حاجز أمام المشاريع الإقليمية التوسعية التي تهدد أمن المنطقة.
موقف شمال وشرق سوريا من “الإعلان الدستوري” الأخير لم يكن مفاجئاً، بل كان تجسيداً لتقييمهم العميق لماضي سوريا وحاضرها. هذا الموقف لم يقتصر على هذه المناطق فقط، بل شمل غالبية الشعب السوري الذي شعر بخيبة أمل كبيرة من الإصرار على نموذج مركزي مستبد يهدد مستقبل سوريا. لقد أصبح من الواضح أن الحكومة الانتقالية السورية أمام خيارين: إما الاستمرار في نفس السياسات، وهو ما قد يؤدي إلى مزيد من الصراعات والحروب الأهلية ويعزز الانقسام داخل البلاد، أو أن تعيد النظر في سياساتها وتفتح الطريق للحوار الوطني الشامل الذي يتضمن جميع مكونات الشعب السوري.
السيناريو الأفضل هو أن تتبنى الحكومة السورية سياسات جديدة تُعطي الأمل للسوريين بمستقبل أفضل. هذا يتطلب إشراك جميع المكونات السورية، من عرب وكرد وسريان آشور وتركمان وأرمن، بالإضافة إلى كافة الأديان والمذاهب والمعتقدات، في عملية بناء سوريا الجديدة التي تُحتضن فيها جميع فئات الشعب دون استثناء. فقط من خلال هذه العقلية المنفتحة، يمكن بناء سلام دائم ومجتمع ديمقراطي يعكس التعددية الثقافية والسياسية.