تشهد سوريا مرحلة فارقة في تاريخها، حيث باتت العدالة الانتقالية محوراً أساسياً في النقاشات السياسية والقانونية، خاصة بعد الأحداث الدامية التي شهدتها مناطق الساحل السوري يومي 7-8 من آذار/مارس الجاري. في ظل الدعوات المتزايدة للمحاسبة والمصالحة، تتعاظم التساؤلات حول إمكانية تحقيق العدالة دون الإضرار بالسلم المجتمعي، ومدى قدرة المؤسسات المحلية والدولية على ضمان محاسبة مرتكبي الجرائم.
شهدت مناطق الساحل السوري تصعيداً عنيفاً إثر تحركات فلول النظام السابق، ما أدى إلى سقوط ضحايا من المدنيين وعناصر الأمن. تقارير ميدانية أشارت إلى وقوع انتهاكات جسيمة، بما في ذلك استهداف مباشر للمدنيين واستخدام أساليب قمعية أثارت موجة إدانات محلية ودولية. منظمات حقوقية وصفت الأحداث الأخيرة بأنها تشكل خطراً على مسار العدالة في سوريا، محذرة من أن غياب المحاسبة قد يؤدي إلى مزيد من الفوضى والانتقام المتبادل.
في مواجهة هذه التطورات، سارع الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إلى إلقاء خطاب تعهّد فيه بإجراء تحقيقات مستقلة لمحاسبة الجُناة، مؤكدًا أن “العدالة الانتقالية ستكون ركيزة أساسية في بناء سوريا الجديدة”، مضيفاً أن “المرحلة القادمة ستشهد تأسيس مؤسسات قضائية جديدة قادرة على استعادة ثقة المواطنين وتحقيق العدالة وفق معايير النزاهة والشفافية”.
العدالة الانتقالية بين المحاسبة والمصالحة
يرى الناشط السياسي محمود الأسعد أن العدالة الانتقالية تمثل “أداة مهمة في الانتقال من مرحلة النزاع إلى بناء السلام”، مشيراً إلى أن ما شهده السوريون من مجازر وجرائم طيلة السنوات الماضية يفرض ضرورة وجود محاسبة فعلية. “شهد العالم أعمالاً وحشية، من قتل وتعذيب وإخفاء قسري، وصولاً إلى استخدام الأسلحة الكيميائية والسجون التي تحولت إلى مسالخ بشرية. هذه الجرائم لا يمكن طيّها دون مساءلة حقيقية”.
اقرأ/ي أيضاً: عفرين.. أصوات تنادي بالعودة، فهل من مجيب؟
لكن العدالة الانتقالية لا تقتصر على المحاسبة فحسب، بل تشمل ردّ الاعتبار للضحايا وضمان عدم تكرار الانتهاكات. في هذا السياق، يؤكد الناشط عبد الكريم السالم أن “يجب أن تسير العدالة جنباً إلى جنب مع جهود المصالحة التي تهدف إلى بناء الثقة بين مختلف فئات الشعب. تحقيق هذا التوازن يتطلب لجان تحقيق مستقلة، وتعويضات عادلة للضحايا، إلى جانب تعزيز الشفافية والمساءلة”.
إضافة إلى ذلك، يرى خبراء في العدالة الانتقالية أن نجاح هذه الآلية يعتمد على إشراك المجتمعات المحلية في صياغة الحلول، وتفعيل منظمات المجتمع المدني لتوثيق الجرائم، وجمع الأدلة التي يمكن أن تشكل أساساً لأي محاكمات مستقبلية.
التحديات القانونية والسياسية أمام التنفيذ
رغم أهمية العدالة الانتقالية، تواجه سوريا تحديات كبيرة في تطبيقها. أحد أبرز هذه التحديات هو غياب قضاء مستقل قادر على محاكمة مرتكبي الانتهاكات. في هذا السياق، يرى الأسعد أن “غياب القضاء لا يمكن أن يكون ذريعة لعدم المحاسبة. يجب إنشاء محاكم خاصة مدعومة من المنظمات الحقوقية الدولية لضمان نزاهة التحقيقات”. كما أشار إلى ضرورة تبنّي آليات عدالة بديلة، مثل اللجان المجتمعية والهيئات المستقلة، ريثما يتم بناء منظومة قضائية جديدة.
إضافة إلى ذلك، يبرز دور القوى السياسية المحلية في إعادة بناء المؤسسات القانونية. يؤكد السالم أن “القوى السياسية تتحمل مسؤولية وضع خطط واضحة لاستقلال القضاء، وضمان عدم تحوّل العدالة الانتقالية إلى أداة انتقام سياسي، بل إلى وسيلة لترسيخ سيادة القانون”.
دور المجتمع الدولي في تحقيق العدالة
المجتمع الدولي يلعب دوراً محورياً في دعم العدالة الانتقالية في سوريا، سواء من خلال الضغط على الدول المتورطة في النزاع، أو تقديم دعم فني وقانوني للهيئات القضائية المحلية. يشير السالم إلى أن “الدول التي كانت طرفاً في الصراع يجب أن تلتزم بالقوانين الدولية وألا تتدخل بما يتعارض مع مصلحة الشعب السوري”. كما شدد على أهمية دعم الأمم المتحدة والمؤسسات الحقوقية المستقلة للتحقيق في الجرائم التي ارتُكبت خلال النزاع.
اقرأ/ي أيضاً: مسار سياسي جديد.. اتفاق دمشق – قسد ومستقبل الحدث السوري
على الجانب الآخر، هناك تساؤلات حول مدى التزام المجتمع الدولي بمحاسبة المتورطين في الانتهاكات. يرى بعض المراقبين أن المصالح السياسية قد تعيق تنفيذ العدالة الانتقالية بشكل كامل، خاصة في ظل تداخل المصالح الإقليمية والدولية في الملف السوري.
تجارب دولية في العدالة الانتقالية
لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا، يمكن الاستفادة من تجارب دول أخرى خاضت صراعات مشابهة، مثل جنوب إفريقيا التي نجحت في تحقيق المصالحة الوطنية من خلال لجان الحقيقة، ورواندا التي اعتمدت على محاكم مجتمعية لمحاكمة المتورطين في الإبادة الجماعية. هذه النماذج أثبتت أن العدالة لا تعني فقط العقاب، بل أيضاً ترميم النسيج الاجتماعي وضمان عدم تكرار الجرائم.
هل تنجح العدالة الانتقالية في سوريا؟
إرساء العدالة الانتقالية في سوريا ليس مجرد مطلب قانوني، بل ضرورة لتحقيق استقرار طويل الأمد. ومع ذلك، يبقى نجاح هذه العملية مرهوناً بوجود إرادة سياسية حقيقية، ودعم دولي، وآليات واضحة للمساءلة والمصالحة. المجتمع السوري الذي عانى لعقود من الانتهاكات والتهميش بحاجة إلى إجراءات حقيقية تعيد إليه ثقته بمؤسسات الدولة، وتضمن عدم تكرار أخطاء الماضي.
وفي ظل هذه التحديات، يظل السؤال المطروح: هل تستطيع سوريا تجاوز إرث الماضي والانطلاق نحو مستقبل أكثر عدالة؟ هذا السؤال سيظل مفتوحاً حتى تتحقق خطوات فعلية على الأرض تضمن عدم إفلات الجناة من العقاب، وتمهد لبناء دولة قائمة على سيادة القانون وحقوق الإنسان.
بلال الأحمد -إدلب