يبدو واضحاً أن جملة المشاهد السياسية والأمنية وحتى الاجتماعية التي تبلورت عقب سقوط نظام الأسد، تشير صراحة إلى وجود شرخ عميق بين السوريين، ما يستوجب العمل السريع على ترميم هذا الشرخ سعياً للوصول إلى سوريا التي يحلم بها أبناؤها. هذا الانقسام جاء نتيجة طبيعية ومنطقية لتراكمات عمد نظام الأسد إلى ترسيخها على مدى العقود الماضية، حيث تمحورت سياساته حول تعميق التفرقة بين السوريين، خصوصاً في المحافظات ذات التركيبة الطائفية المتنوعة. ومن بين هذه المحافظات، برزت حمص بتنوعها الطائفي، مما جعل من الضروري اعتماد خطة سياسية واجتماعية مدروسة لمنع أي انقسام محتمل، مع العمل على استثمار هذا التنوع بصورة إيجابية تحول دون تحوله إلى مصدر خوف أو عائق أمام بناء سوريا الجديدة.
لا يمكن لأي سوري أن ينكر أن محافظة حمص شهدت توترات طائفية عقب سقوط النظام، رافقتها استفزازات أمنية ممنهجة هدفت إلى دفع المحافظة نحو اقتتال طائفي. إلا أن وعي أبناء حمص، والمسار السياسي الذي اعتُمد في المدينة وريفها، ساهما إلى حدّ كبير في تهدئة الأوضاع، وسط دعوات متواصلة إلى نزع فتيل التوترات وتعزيز العمل المجتمعي لتوحيد أبناء المحافظة. وفي الوقت الراهن، بات هذا التنوع الطائفي يشكل تحدياً كبيراً أمام الحكومة السورية، ما يفرض ضرورة تكريس حالة الأمن والاستقرار في عموم المحافظة.
وفي تعمقه بواقع حمص السياسي والأمني، يؤكد أمين عام حزب المستقبل العلماني السوري، جابر سلامة المقيم في مدينة حمص، أن “لفهم الواقع الأمني والسياسي في مدينة حمص والمحافظة عموماً، لا بد من قراءة الصورة العامة لما تبدو عليه سوريا”.
اقرأ/ي أيضاً: الحكومة السورية الجديدة ومقومات العمل السياسي الناجح
يقول سلامة إن “الصورة العامة للبلد لا يمكن فصلها عن المتغيرات العالمية والإقليمية، لأن ما حدث من انهيار للأنظمة السياسية في المنطقة من العراق إلى سوريا، يرتبط ارتباطاً مباشراً بتطورات عالمية. فمنذ الحرب العالمية الثانية واتفاقيات سايكس بيكو، ظهرت عقيدتان: الأمة والوطن. العقيدة الأولى تبناها الإخوان المسلمون والأحزاب القومية مثل البعث والقومي السوري الاشتراكي، فيما تبنت العقيدة الوطنية أحزاب وطنية مثل الكتلة الوطنية. وبطبيعة الحال، فإن المكونات السورية، كالعلويين والإسماعيليين والمرشدية والمسيحيين، لم يكن لها امتداد خارج حدود الوطن، ما جعلهم يؤمنون بسوريا كوطن نهائي لهم”. ويتابع “بعد أكثر من قرن على سايكس بيكو، أصبحت هذه الاتفاقيات غير قابلة للاستمرار مع تغير المصالح الاستراتيجية وملامح النظام العالمي الجديد، وظهور قوى جديدة كتركيا وإيران وإسرائيل، وكل منها تحاول تصدير مشاريعها خارج حدودها، مما أدى إلى ضغط مكثف على سوريا وانهيار نظامها الحاكم”.
ويضيف سلامة: “بعد سقوط نظام الأسد، تشظت العقائد السابقة وتحولت إلى يسار ويمين، بتشدد واعتدال، وامتد هذا الانقسام إلى دول الجوار وحتى إلى القصر الجمهوري نفسه. وقد انعكس هذا الصراع بشكل مباشر على حمص، المدينة المعروفة بطيبة شعبها وتعدد طوائفها، حيث ظهرت شعارات طائفية موجهة ضد المكونات، بما فيها المسيحيون، رغم أن المدينة عرفت لعقود طويلة تعايشاً مذهبياً وسلمياً”. ويشدد على أن “هذه النعرات حديثة العهد وليست أصيلة، فحمص كانت على مدى قرون، قبل سايكس بيكو وبعده، مجتمعاً متنوعاً ومتعايشاً”.
ويقول سلامة: “كما هو معروف، فإن طيبة أهالي مدينة حمص قد تصل أحياناً إلى حد السذاجة، وهذه السذاجة حين تترافق مع الفقر الشديد، تصبح أرضاً خصبة لتلقي الأفكار المتطرفة، خاصة في ظل نفاق رجالات السلطة الذين كانوا بالأمس يدعون لبشار الأسد واليوم يدعون لأحمد الشرع، ولا يتورعون غداً عن الدعوة لغيره. ومع قرار السلطة بحل الأحزاب وتسريح موظفي الجيش والأمن والشرطة، تفاقم الفراغ وأصبح جيش العاطلين عن العمل في حمص كبيراً، لتتجه نسبة كبيرة منهم نحو الانخراط في عقائد دينية متشددة بدلاً من النشاط الحزبي أو السياسي أو الثقافي، مما أدى إلى تصاعد الشعارات والاستهدافات الطائفية بشكل شبه يومي، في ظل غياب مؤسسات شرطية وقضائية فاعلة”.
اقرأ/ي أيضاً: الانتقال الديمقراطي في سوريا.. تحديات وهواجس
وعن المشهد السياسي في حمص، يوضح سلامة أن “الساحة لم يبقَ فيها سوى بضعة كيانات سياسية تعمل ضمن إمكانات محدودة وأدوات بسيطة وفي بيئة شديدة الخطورة، منها حزب المستقبل السوري العلماني، الذي يحاول أن يملأ الفراغ وأن يوازن بين الإيديولوجيات الدينية والسياسية والثقافية. وقد أدى حل الأحزاب إلى تدعيم القوى الدينية المتطرفة الوافدة من الخارج، التي أصبحت قوتها تفوق في بعض الأحيان قوة الدولة وأجهزتها الأمنية، رغم جهود الأجهزة الأمنية التي تبذل طاقتها القصوى، لكنها تواجه واقعاً يفوق قدراتها على حماية الطوائف، رغم الوعود المتكررة بالاستقرار، إلا أن استمرار الاعتقالات وعدم استقرار الوضع الأمني يكشف عجزهم عن تنفيذ هذه الوعود”.
ويستطرد سلامة قائلاً: “لا يمكن فصل الوضع الأمني والسياسي في حمص عما يحدث في سوريا من تداخلات وتجاذبات دولية وإقليمية. فالاستقطاب الحاد الذي نشهده حالياً يتم تغذيته من جهات خارجية معادية لوحدة سوريا وقيمها، بل وقيم الإسلام نفسه، وقد وقع البعض فريسة للجهل والغلو، وسط حملات ضخمة من الذباب الإلكتروني وشبكات التواصل، في ظل غياب إعلام رسمي أو إلكتروني رصين قادر على التصدي للشائعات، مما يؤدي إلى مزيد من الإحباط والانكفاء عن العمل اليومي لدى الشباب”.
في المقابل، وجه سلامة دعوة إلى جميع الفعاليات المجتمعية في حمص، قائلاً: “نهيب بجميع الأحزاب والنقابات وهيئات المجتمع المدني والجمعيات إلى نشر ثقافة الاعتدال وبث الطمأنينة بين أبناء المجتمع، ومد جسور الوطنية وتعزيزها بين مختلف الطوائف، لأن المجتمع الحمصي، خصوصاً في مناطق الأقليات، يعاني حالياً من البطالة والفقر والخوف. الشباب اليوم بلا هوية أو مستقبل، وغالبية العائلات بلا دخل أو معيل. وإذا أردنا وصف الوضع في حمص اليوم، فإنها أشبه بقدر يغلي، وإذا ما رُفع الغطاء، سنجد أرامل وأيتاماً وفقراء وشباباً بلا أمل”.
ويختم سلامة حديثه قائلاً: “إن تفسير شدة الاستقطاب في حمص يعود إلى وجود طائفتين كبيرتين هما السنة والعلويون، وهناك من يسعى جاهداً إلى شيطنة العلويين. غير أننا نؤكد أن العلويين ليسوا شياطين، ولا السنة ملائكة. فالمظلوميات التي يعاني منها أهل السنة في الشمال والمخيمات حقيقية ولا يمكن إنكارها، غير أن المسؤول عنها ليست الطائفة العلوية بل الطائفة الأسدية، وجل أفرادها من السنة أنفسهم، وهو ما تدركه القيادات والمسؤولون. ولكن العامة لا تفرق بين الأمرين، لا سيما بعد عقد من تغييبهم عن المدارس والمجتمعات المتنوعة وشحنهم بتعاليم دينية متشددة”.
ويشير سلامة في ختام حديثه إلى أن “غياب مشروع العدالة الانتقالية أو تأخره، دفع بعض المتضررين إلى البحث عن الثأر بأنفسهم، لذلك نؤكد مجدداً على ضرورة إعلان قوائم المتهمين -إن وجدت- وتفعيل مسار العدالة الانتقالية”.
سحر الحمصي-حمص