في ديسمبر 2024، ومع سقوط نظام بشار الأسد، تنفَّس السوريون الصعداء بعد سنوات من القمع والعنف، غير أن الفرحة لم تدم طويلاً. فقد فتحت الانتصارات السياسية الباب أمام أسئلة مقلقة: كيف يمكن لمجتمع مزّقته الحرب أن يلتئم من جديد؟ وكيف تُحاسَب الجهات التي ارتكبت جرائم ضد الإنسانية؟ وهل يمكن لسوريا أن تبني مستقبلاً دون أن تحاكم ماضيها؟
العدالة الانتقالية، ذلك المفهوم الذي يبدو للبعض حلماً بعيد المنال، بات اليوم قضية وجودية للسوريين. إنها ليست مجرد محاكمات أو تعويضات، بل مسار معقد نحو المصالحة، يمس جراح الملايين ويتطلب شجاعة نادرة لمواجهة الحقائق المُرّة. فما هي العقبات التي تعترض هذا الطريق؟ وهل يمكن تحويل الألم إلى أمل؟
العدالة الانتقالية… بين الحلم والواقع
مع سقوط النظام، تصوَّر كثيرون أن العدالة ستأتي كالسيل، تجرف كل من تلطخت أيديهم بالدماء. لكن الواقع بدا أكثر تعقيداً. فالعدالة الانتقالية، كما يراها الخبراء، تشبه لعبة “الدومينو” السياسية: محاسبة المنتهكين، تعويض الضحايا، إصلاح المؤسسات الفاسدة… كل خطوة تحتاج توقيتاً دقيقاً، وأي خلل قد يعيق العملية بأكملها.
في هذا السياق، يعلّق السياسي السوري سمير نشار: “العدالة الانتقالية استحقاق لابد منه، لكنها بحاجة إلى توافقات وطنية بين كل القوى والمكونات السورية، سياسيةً واجتماعيةً وثقافيةً. يجب ألا تكون انتقائيةً، وأن تشمل الجميع في كل المحافظات، بغض النظر عن هوية المرتكبين. لكن التوافق الوطني لم يتحقق بعد، بسبب عجز السلطات الانتقالية عن التواصل الفعّال مع المكونات ذات الحيثية في المجتمع”.
اقرأي أيضاً: بعد فترة “كمون” .. هل يسعى “داعش” إلى استعادة قوته في سوريا؟
كلمات نشار تلامس جوهر الإشكالية: غياب الإرادة السياسية لبناء جسور الثقة وتبني خطاب جامع يتجاوز الانقسامات. فالمحاسبة الجزئية قد تُغذي نزعات الثأر، فيما يُعيد الإصلاح الشكلي دون محاسبة حقيقية إنتاج الاستبداد بأقنعة جديدة.
العدالة الانتقالية… فلسفة التعافي أم وهمٌ سياسي؟
العدالة الانتقالية ليست مجرد آلية قانونية لملاحقة الجناة، ولا عملية شكلية لترميم صورة الدولة. إنها رحلة استثنائية تهدف إلى إصلاح ما انكسر في نسيج المجتمع، بدءاً من كشف الحقيقة، مروراً بمحاسبة المسؤولين، وانتهاءً بتعويض الضحايا وضمان عدم تكرار الكارثة. لكن في سوريا، حيث تشابكت الانتهاكات، يغدو تطبيق هذه الآلية أقرب إلى حلّ لغزٍ معقد بلا خريطة.
تقول هالة الياسين، الصيدلانية من حلب: “الحديث عن العدالة الانتقالية اليوم يختزل الجرائم في جهة واحدة، متجاهلًا انتهاكات الأطراف الأخرى، بدوافع انتقامية أو انتقائية. حتى المجازر الأخيرة تُعامَل بانتقائية، نحتاج إلى جهات محايدة لتطبيق العدالة، لكن كيف نثق بمنفذين فقدنا الثقة بهم كسوريين؟ الأهم هو إعادة بناء الثقة بين المكونات، والاعتراف بأن الجريمة جريمة، بغض النظر عن هوية الجاني”.
“قد نختلف على شكل العدالة، لكننا نتفق على شيء واحد: سوريا الجديدة يجب أن تُبنى على أرضية من الحقوق، لا على مقابر جماعية”، بهذه الكلمات تلخص الياسين حلم الملايين. فهل تتحول الكلمات إلى أفعال؟ الجواب يكمن في قدرة السوريين على تحويل الألم إلى ذاكرة، والذاكرة إلى درس، والدرس إلى مستقبل.
تحذير هالة يسلط الضوء على ثغرة خطيرة: غياب الحيادية في عملية المحاسبة، واختزال العدالة في إطار انتقامي ضيق. فالمجتمع الذي عاش تحت “ثقافة الاشتباه” لأكثر من عقد، يحتاج اليوم إلى آليات واضحة لكشف الحقيقة، ومساحات آمنة للحوار، قبل الحديث عن محاكمات قد تُشعل فتناً جديدة.
بدوره، أشار محمود حمّام، المتحدث باسم “منتدى حلب عاصمة الثقافة الإسلامية”، إلى أن الشعب السوري بدأ مرحلة التعافي بعد خمسة عشر عاماً من “الظروف الصعبة والانتهاكات الفظيعة” التي خلّفها الاستبداد، مشدداً على أهمية بناء تجربة وطنية حول العدالة الانتقالية لضمان انتقال سلمي نحو نظام ديمقراطي شامل.
وأوضح حمّام أن “المجتمع السوري يسعى اليوم إلى لملمة جراحه وتعزيز التماسك الاجتماعي، عبر دروس الماضي التي يجب أن تُدرَّس لتجنب تكرار الكوارث”، مضيفاً أن “الشعوب التي لا تقرأ تاريخها معرّضة لإعادة إنتاج الأزمات”. كما شدد على أن هدف المرحلة الحالية هو “خلق وطنٍ يشعر جميع السوريين بالانتماء إليه والدفاع عنه”، من خلال حكمٍ يُمثّل كل الفئات ويُرسي قواعد الحرية والعدالة.
اقرأ/ي أيضاً: الساحل السوري.. مشهد سياسي غير متوازن ومعطيات ضبابية
واختتم حمّام تصريحه بالتأكيد على رؤية المنتدى لدور الثقافة والفكر في بناء المستقبل، قائلاً: “نسعى لسوريا حرةً مستقلةً ديمقراطيةً، يُعيد فيها السوريون اكتشاف انتمائهم لوطنٍ يحتضن الجميع دون استثناء”.
مصير الضحايا… بين النسيان والإنصاف
وسط ضجيج السياسة، يغيب صوت الضحايا. ليلى محمود، الستينية النازحة من ريف حلب، ترفض التعويض المادي: “المال لا يعيد ابني، لكني أريد اعترافاً علنياً بجريمة اختفائه”. قصتها تعكس معضلةً عميقة: كيف تُوازن العدالة بين مطالب الضحايا المختلفة؟ البعض يريد نصباً تذكارياً، وآخرون يطالبون بمحاكمات رمزية، بينما يفضل غيرهم الصمت طلباً للسلام.
العدالة ليست وجهةً… بل رحلة تستحق المخاطرة
رغم الإجماع النظري على ضرورتها، فإن الطريق نحو العدالة الانتقالية أشبه بالسير في حقل ألغام. الواقع السوري يطرح أسئلة حرجة: كيف نُرجئ المحاكمات دون إثارة الفوضى؟ من سيموّل تعويض ملايين الضحايا في دولةٍ مفلسة؟ وهل يمكن إصلاح مؤسساتٍ كانت أداة قمع لعقود؟
رغم كل التعقيدات، تبقى العدالة الانتقالية في سوريا مشروعاً حياً يستحق العناء. فالشعب السوري، الذي واجه الموت بشجاعة، قادرٌ على ابتكار طرق جديدة للحياة. قد تكون الرحلة طويلة، وقد تسقط في الطريق تضحيات جديدة، لكن كل خطوة نحو الحقيقة تُعيد للضحايا أسماءهم المسلوبة، وتُعيد للوطن إنسانيته المفقودة.
إن العدالة الانتقالية في سوريا اليوم تمثل ضرورة ملحّة لكسر دائرة العنف وبناء مستقبل مستقر. وبين المحاسبة الجنائية، تعويض الضحايا، وإصلاح النظام السياسي، قد تُفتح أبواب المصالحة. فاستجابة الشعب السوري لهذه الدعوات تحمل في طياتها بذور الأمل والتغيير، وتجعل من العدالة الانتقالية ليست خياراً، بل ضرورة لكل سوري يسعى إلى غدٍ أفضل.
حلب – لينا العلي