مع سقوط نظام الأسد، بدأ المشهد السياسي في محافظة السويداء يتخذ شكلاً جديداً في تعامله مع سوريا المستقبل والإدارة الجديدة، بما يوحي بانخراط المحافظة في مسارات وتوجهات سياسية متعددة. وبينما شهدت البلاد مسارات سياسية متنوعة بعد انهيار النظام، كانت مواقف السويداء واضحة حيال هذه المسارات، لا سيما تجاه مؤتمر الحوار الوطني والإعلان الدستوري، إلا أن المحافظة لا تزال تشهد حراكاً معارضاً للتوجه العام للإدارة السورية الجديدة، ما أدى إلى تطورات أمنية متسارعة رسمت ملامح مشهد سياسي مليء بالتحديات، تعكس عموماً تعقيدات المشهد السوري بأكمله.
المشهد السياسي في السويداء مركب ومنقسم على ذاته
في هذا السياق، يؤكد الباحث الاجتماعي والناشط في الشأن العام، هيثم صعب من السويداء، أن المشهد السياسي في المحافظة يتميز بتركيبه وتعقيده، إذ يشهد انقساماً داخلياً، وهو حال لا تختلف فيه السويداء عن بقية المناطق السورية، وإن تميزت بدرجة التعبير عنه. ويشير صعب إلى أن الانقسام الراهن يستعيد بدرجة أو بأخرى الحالة القديمة من الانقسام بين موالاة ومعارضة، لكنه شهد اصطفافات جديدة، حيث انتقل بعض من المعارضين السابقين للنظام المنهار إلى صفوف الموالاة للإدارة الحالية، في حين بقيت غالبية أخرى على موقفها المعارض، وإن اختلفت في درجة المعارضة وشكلها، فمنهم من يكتفي بانتقاد الإجراءات والممارسات، ومنهم من يتخذ موقفاً جذرياً يعتبر أن السلطة الجديدة ذات توجه ديني سلفي لا ينسجم مع واقع سوريا المتعدد عرقياً ودينياً وطائفياً.
اقرأ/ي أيضاً: الحكومة السورية الجديدة ومقومات العمل السياسي الناجح
أما عن الهواجس التي تسود المجتمع المحلي حيال الإدارة الجديدة، فيوضح صعب أن وصول تيار إسلامي متشدد إلى السلطة أثار قلقاً عميقاً لدى شرائح واسعة من المجتمع، الذي، كغيره من المجتمعات ذات التكوين الأقلوي، يحمل مخزوناً نفسياً كبيراً من الخشية من أي سلطة تتبنى خطاباً دينياً متشدداً. ويزداد هذا القلق عندما يُستدعى ماضٍ مثقل بالانقسامات المذهبية، وتُطرح مقولات الأكثرية والأقلية، التي تنسف جوهر المواطنة. ويؤكد أن الدروز، كمكون مذهبي، ليسوا طلاب سلطة، بل يحلمون بدولة مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، ويتشاركون هذا الحلم مع العديد من المكونات الأخرى، بل وحتى مع شرائح واسعة من المكوّن السنّي المعتدل والمستنير. من هنا، فإن الشعور السائد اليوم هو شعور بالانكفاء والانكماش، تغذيه الخطابات الدينية المتشددة والتحريض الطائفي الذي انتشر للأسف بسرعة خلال الشهور الماضية.
تطورات السويداء وجرمانا وصحنايا
وبالارتباط بما سبق، شهدت مدن جرمانا وصحنايا وأشرفية صحنايا توترات أمنية ذات طابع طائفي، أعقبت انتشار تسجيل صوتي منسوب لأحد شيوخ العقل في السويداء، الأمر الذي أطلق شرارة توتر واسع امتد من ريف دمشق إلى قلب محافظة السويداء، وترافق مع دعوات تحريضية ضد الطائفة الدرزية.
وفي هذا السياق، قال الناشط السياسي عصام شرف الدين من السويداء إن ما جرى في السويداء وجرمانا وصحنايا يعكس حجم الخطر في المشهد السوري، مشيراً إلى أن هذه التطورات تضع الإدارة الجديدة أمام مسؤوليتها، خصوصاً في ما يتعلق بتأخير تطبيق العدالة الانتقالية.
ويتابع عصام قائلاً إن الأحداث التي شهدتها السويداء، وبصرف النظر عن خلفياتها التحريضية، ومحاولات الإدارة الجديدة فرض واقع جديد بالقوة، دفعت شيوخ العقل، وعلى رأسهم الشيخ حكمت الهجري، إلى قناعة تامة بأن السلاح هو الضامن الوحيد لأمن أبناء السويداء، وأن تسليمه دون اتفاق واضح مع السلطات الجديدة يمثل تهديداً حقيقياً للطائفة الدرزية. لذلك، تقرر عدم تسليم السلاح، ورفض السماح لقوات الأمن العام بالانتشار في المحافظة، مع وضع اشتراطات لأي اتفاق، أبرزها أن يتولى أبناء المحافظة إدارة الملف الأمني بأنفسهم.
ويضيف عصام أن حملات التحريض التي استهدفت أبناء الطائفة الدرزية، والكم الهائل من الأخبار الزائفة التي رافقت التطورات الأخيرة، تؤكد صوابية الموقف الذي تبنته المحافظة. والأهم، وفق رأيه، أن ما طُرح من قبل شيوخ العقل وغالبية الأهالي يصب في اتجاه بناء دولة ديمقراطية قائمة على العدالة الحقيقية، مع ضرورة تجريم الخطابات الطائفية، لا سيما تلك التي دعت إلى إبادة الطائفية. ويرى أن العقلية التي تدعو للانتقام لا يمكن أن تكون شريكاً في الوطن، وأن ما ينقذ السوريين، بمختلف مكوناتهم، في هذه اللحظة الحرجة، هو حوار وطني جامع، مشدداً على أن ما جرى في جرمانا وصحنايا والسويداء، من تحريض طائفي ورفع شعارات الإقصاء، يُحتم الشروع الفوري في تنفيذ العدالة الانتقالية.
القرار 2254 لا يزال الحلّ الأنسب للمشهد السوري
الحقوقية والناشطة السياسية من السويداء، آمال محيثاوي، وصفت ما حدث في السويداء بأنه “كارثة وطنية”، وأكدت أن المحافظة كانت ولا تزال شريكة في حلم السوريين ببناء دولة ديمقراطية تعددية لامركزية، تقوم على سيادة القانون بمفهومه الشامل.
وتوضح محيثاوي أن الأحداث التي شهدتها صحنايا وجرمانا اتخذت طابعاً طائفياً، بينما سعى البعض في السويداء إلى تحميل الطائفة الدرزية مسؤولية مستقبل سوريا، في محاولة لإقصائها عن المشهد السوري، وهو ما يُعد إشكالية حقيقية. وتشير إلى أن الإدارة الجديدة لم تُصدر أي إدانة رسمية للتحريض الذي طال الدروز، ولم تحمِ السويداء من الهجمات المسلحة، ما يُدخل سوريا في منعطف خطير، خاصة إذا أُخذ بعين الاعتبار الانتهاكات التي وقعت في صحنايا وأشرفية صحنايا عقب دخول قوات الأمن العام والجيش.
اقرأ/ي أيضاً: الانتقال الديمقراطي في سوريا.. تحديات وهواجس
وترى آمال أن هذه التطورات تؤكد الحاجة إلى حوار وطني حقيقي بين السوريين، والدعوة إلى مؤتمر وطني يترجم جوهر القرار 2254، الذي لا يزال يشكل خارطة طريق قابلة للتنفيذ لحماية سوريا ومكوناتها. وتشدد على أن ما حدث يفرض على السوريين تأسيس مشهد وطني جديد يُحبط مشاريع التحريض ويحول دون سفك المزيد من الدماء.
وتختم محيثاوي بالقول إن المطلوب اليوم هو أن تبادر الإدارة الجديدة إلى عقد مؤتمر وطني جامع، يمثل السوريين تمثيلاً حقيقياً وواقعياً، ويُفضي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تقود البلاد نحو سوريا ديمقراطية تعددية. وتؤكد أن ما شهدته السويداء وجرمانا وصحنايا يضع البلاد على حافة الهاوية، وأن ما ينقذها، وفق رؤيتها القانونية، هو مؤتمر وطني جامع يتوّج بدستور واضح يُجرم الفتنة الطائفية، ويمنع أي حديث تحريضي ضد الأقليات.
اللامركزية خيار شعبي في وجه استبداد المركز
وعطفاً على ما سبق، وضمن سياق تطورات المشهد من السويداء إلى جرمانا وصحنايا، يؤكد الأستاذ هيثم صعب أن اللامركزية باتت مطلباً عاماً لدى أهالي السويداء، ويرى أنّه كلما ازدادت السلطة المركزية تشبثاً بمركزيتها كخيار وحيد، ازداد تمسك الناس باللامركزية، لأنها، من وجهة نظرهم، السبيل إلى كسر الاستبداد ومنعه من العودة في عباءة جديدة. ويحذر صعب من أن أحلام الناس قد تتبع مسارات متباينة إن استمرت السلطة في فرض خيارها الأوحد، متجاهلة أصوات الحكمة والعقل.
عمر صحناوي-السويداء