تمثّل لحظة البحث عن دستور جديد لـ سوريا واحدة من أكثر المحطات حساسية في مسار التحول السياسي، ليس فقط لأنها تؤسس لقواعد العيش المشترك، بل لأنها تختبر قدرة السوريين على إنتاج عقد اجتماعي جديد يطوي صفحة الاستبداد ويعيد بناء الدولة على أسس ديمقراطية. في هذا السياق، يقدّم موفق نيربية، عضو الهيئة التنفيذية لـ”المسار الديموقراطي السوري”، قراءة تستند إلى تجربة سياسية طويلة ومتابعة دقيقة للتكوين الاجتماعي السوري وتعقيداته البنيوية. في رؤيته، لا يمكن لسوريا أن تتجاوز إرثها الثقيل من المركزية والاستئثار السلطوي من دون تبني عقد اجتماعي جديد، ينبني على الاعتراف بالتعدد، واعتماد اللامركزية بوصفها ركيزة للديمقراطية وضمانًا وطنياً شاملاً.
يرى السياسي السوري موفق نيربية أن سوريا الحديثة وُلدت من تركة العهد العثماني، وأن ما ورثته من موقع استراتيجي وتركيبة سكانية شديدة التنوع، جعل من نمط الحكم المركزي الاستبدادي الخيار الواقعي الوحيد، وفق المعادلات القديمة، لكي تنهض كدولة مستقلة في بداية القرن العشرين. فـ”سوريا بنت القرن العشرين، وسليلة السلطنة العثمانية أو أنها كانت جزءاً منها. هي تتميّز في الوقت نفسه ومنذ القدم بكونها متنوّعة ملوّنة، تقع على الطريق الدولية في موقع استراتيجي، لذلك بالمعادلات القديمة، لم يكن ممكناً أن تقوم وتستقلّ بنفسها في ذلك الزمن إلّا على النمط المركزي الاستبدادي، وبقيت كذلك طالما كانت تتطلّع إلى الوراء.”
وفي قراءته التاريخية، يلفت نيربية إلى أن التجربة اللامركزية الوحيدة التي عرفتها سوريا كانت إبان الانتداب الفرنسي، ولم تدم سوى ستة عشر عاماً. لكن مع اقتراب النخب الوطنية من السلطة في أواخر عهد الانتداب، طغت نزعة التفوق القومي على مشروع بناء الدولة، وتم تثبيت الطابع المركزي للنظام السياسي. يقول: “في فترة الوجود الفرنسيّ كانت لا مركزية لفترة ستة عشر عاماً وحسب. وحين اقتربت النخب المحلية/ الوطنية من السلطة، تملكّتها رغبة التفوق الوطني/ والعزّة القومية، أصبحت مركزية بوجود الاستعمار منذ عام ١٩٣٦، وتعززت تلك النزعة بمقدار الضعفين مع الاستقلال، وتأسيس الجيش الوطني.”
ويُرجع نيربية قبضة الاستبداد إلى تغوّل المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية، بدءاً من انقلاب 1958، ومن ثم تسلم حزب البعث السلطة عام 1963، وصولاً إلى هيمنة آل الأسد المطلقة منذ أكثر من خمسة عقود. “لم يترك ذلك الجيش إلّا فتحات صغيرة في الزمن للديمقراطية ومحاولات الحداثة، وتقاسم السلطة مع المدنيين أحياناً، لكنّه انفرد بها منذ ١٩٥٨، وخصوصاً مع العام ١٩٦٣ وحكم البعث/ القومي العربي، وأمسك بها بيد من حديد مع بداية حكم آل الأسد مند ٥٤ عاماً.”
بناءً على هذا السرد، يخلص نيربية إلى أن خيار الخروج من الاستبداد لم يعد خياراً فكرياً أو سياسيًا فحسب، بل ضرورة تاريخية لا مناص منها. فإما البقاء تحت نير حكم العائلة الواحدة، أو الانفتاح على مستقبل قائم على الديمقراطية واللامركزية والحداثة. “منذ سنوات طويلة أصبح واضحاً أن اختيار واحد من الطريقين حتمي: إما الاستبداد وحكم عائلة واحدة، أو الحداثة والديمقراطية واللامركزية وفتح آفاق على المستقبل والتاريخ، مع الحرية والتقدّم. وذلك مستحيل من دون دستور متوافق مع هذا التوصيف والمضمون.”
لكن الوصول إلى دستور عصري، كما يوضح، لا يمكن أن يتم في ظل نهج الإملاء أو الغلبة، بل من خلال آليات تفاوضية وتوافقية تعكس البنية المركبة للمجتمع السوري. “لا يمكن في مثل تركيبتنا الوطنية التوصّل إلى دستور مطابق وعقد اجتماعي مناسب من دون آليّات التسوية وتوفيق المصالح أو التوافق، حيث تنعكس تركيبة البلاد سكّانيّا، أفراداً وجماعات على بنية ذلك الدستور وطبيعة نظام الدولة.”
ويعتبر نيربية أن التوافق على دستور جديد يجب أن يستند إلى المفاهيم والخبرات التي راكمها القانون الدولي الحديث، ومواثيق حقوق الإنسان، باعتبار أن هذا المسار وحده القادر على إنتاج وثيقة دستورية ذات قيمة مادية هائلة لأية دولة حديثة. “من خلال آليّات التوافق الصبور المتفاعل، والتوافق مع المفاهيم والخبرات الحديثة كما وردت في القانون الدولي والقانون الإنساني ولوائح حقوق الإنسان، يمكن الوصول إلى تلك الوثيقة السحرية ذات القيمة الماديّة الهائلة لأية دولة حديثة.”
وفي قلب هذا المشروع الدستوري الجديد، تبرز اللامركزية لا كخيار فني أو إداري، بل كأساس سياسي يستند إلى مبدأ الشراكة الوطنية ويقطع مع كل أشكال الاستبداد. “ليست اللامركزية مصلحة للجماعات السكانية المتنوّعة أو المختلفة وحسب، بل هي مصلحة وطنية للشعب كلّه، لأنها تنفي الاستبداد وتركيباته، وتمنع عودته.”
ويؤكد نيربية أن جوهر المسار السوري المستقبلي ينبغي أن يقوم على مبادئ مأخوذة من التجارب الدولية الناجحة، تبدأ بالاعتراف المتبادل بين مكونات الشعب السوري، وتكرّس التعدد القومي والديني والطائفي في نص الدستور نفسه، وتبتكر الأدوات التي تجعل من هذا التنوّع مصدراً للقوة والاستقرار. “أيّ مسار سوري يبحث عن أن يكون مضموناً وأقرب إلى الثبات والديمومة، يعتمد على مبادئ تعرفها التجارب الدولية، تستند إلى الاعتراف المتبادل أولاً، وإلى النصّ في النصّ ذاته على التعدد والتنوّع القومي والديني والطائفي في بنية المجتمع السوري، ويبدع الأدوات التي تجعل من التنوّع هذا قوة وصلابة وأماناً للمستقبل وللجميع.”
وينبّه إلى أن الاعتراف بالتعدد لا يجب أن يُفهم كتنازل، بل هو شرط للصحة الوطنية الجامعة، ويجب أن يُقرن بضمانات تكفل الاطمئنان المتبادل بين كافة الجماعات السورية، صغيرة كانت أم أكثرية. “ذلك الاعتراف أساس لصحة البنية الوطنية، التي تجمع الجميع حول هوية جامعة سورية، من دون أن يكون ذلك باباً لقمع هواجس الجماعات البشرية التي تريد ضمانات كافية من أجل المستقبل. تلك الضمانات لا تحتاجها الجماعات الأصغر وحسب، بل تحتاجها كذلك الأكثرية الثقافية أو الطائفية، التي كانت هي الضحية الأكبر للاستبداد الذي انقضى بسقوط الطاغية الأسد وطغمته.”
ويختم نيربية بتأكيده أن المسار نحو دولة ديمقراطية لامركزية لا يضمن فقط الخروج من الاستبداد، بل يحول دون انزلاق سوريا مجدداً نحو الفوضى أو توليد بؤر الإرهاب. إنه طريق التقدّم المشترك نحو مستقبل يستند إلى المعايير الدولية والحداثة. “ذلك طريق التقدّم والأمان، طريق الحرية والازدهار لجميع السوريين… وهو لا يضمن الانتهاء من احتمال الاستبداد والتمييز وحسب، بل إنه يمنع انزلاق البلاد إلى حالة تولّد الإرهاب والفوضى، التي سوف تحتاج عندئذ إلى عقود أخرى لاستعادة الطريق الصحيح والمعاصر المنسجم مع المعايير الدولية الحديثة، في قرننا الحادي والعشرين هذا الذي يسير بسرعة خارقة، وقد يتركنا وراءه للنسيان.”