في زمن الانهيارات الكبرى التي تعصف بالدولة السورية، لم يعد ممكناً الدفاع عن نموذج الحكم المركزي الذي جرّ البلاد إلى الكارثة. لم تكمن المشكلة يوماً في الأشخاص الذين تعاقبوا على حكم دمشق، بل في بنية الحكم ذاتها: مركز يحتكر القرار والثروة والهوية، ويترك الأطراف مهمّشة ومستَغَلة. في مواجهة هذا الواقع، لا يكفي تغيير الوجوه، بل لا بدّ من تغيير الجذر. فاللامركزية ليست خياراً إدارياً، بل ضرورة فلسفية وسياسية واجتماعية لبناء مجتمع جديد.
لماذا اللامركزية؟
في جوهر الفلسفة القومية التي تبنّاها نظام البعث، تأسست الدولة على نموذج أحادي: لغة واحدة، قومية واحدة، هوية واحدة، وولاء مطلق للسلطة. هذا النموذج حوّل الدولة من مؤسسة لخدمة الناس إلى أداة قمع. فُرض التهميش على المجتمعات غير العربية، وقُمعت اللغات المحلية، وحرِمت المناطق من حقها في إدارة شؤونها. حتى التنوع الداخلي للمجتمع العربي نفسه تمّ إقصاؤه، وتحوّلت العاصمة إلى مركز نخبوي يُدير البلاد بعقلية استعمار داخلي. من هنا، لا يمكن فهم اللامركزية إلا كرفض لتراكمات هذا الظلم، وكوسيلة لإعادة التوازن بين المركز والأطراف، وبين المجتمع والدولة.
اللامركزية: الديمقراطية من الأسفل
ما نحتاج إليه هو بناء تصوّر جذري للديمقراطية، لا باعتبارها مجرد آلية انتخابية، بل كنمط حياة قائم على التنظيم الذاتي. في هذا الإطار، اللامركزية لا تعني تفويضًا من الدولة للمناطق، بل تفكيكاً لبنية الدولة كأداة سيطرة، وإعادة بناء للسلطة من الأسفل، أي من المجتمع المحلي. اللامركزية تعني أن تُتخذ القرارات في المكان الذي تؤثّر فيه، وأن يكون الناس هم من يحدّدون أولوياتهم بأنفسهم، من خلال مجالسهم ومؤسساتهم، لا عبر نُخب منعزلة عن الواقع. هذه ليست أطروحات نظرية فحسب، بل تُجسَّد فعلياً اليوم في مناطق الإدارة الذاتية، رغم التحديات البنيوية والسياسية.
تجارب من العالم: دروس في اللامركزية
تمثل سويسرا مثالاً تاريخياً على كيف يمكن لنظام فيدرالي مبني على لامركزية عميقة أن يحافظ على وحدة بلد متعدد اللغات والثقافات. فلكل كانتون صلاحياته، ومجتمعاته المحلية تشارك بشكل مباشر في اتخاذ القرار عبر الاستفتاءات الشعبية. أما إسبانيا، فرغم الصراعات القومية التي تعصف بها، فقد طوّرت نموذجاً للحكم الذاتي مكّن أقاليم مثل كتالونيا والباسك من إدارة شؤونها بقدر كبير من الاستقلال، مما خفف من التوترات، ولو مؤقتًا. وفي العراق، رغم التحديات، أظهر النموذج الفيدرالي أن الاعتراف بالتعدد القومي والمذهبي، إذا ما ترافق مع مؤسسات فعّالة، يمكن أن يمنع الانزلاق مجددًا نحو الدكتاتورية. في جميع هذه النماذج، تتجلى اللامركزية لا كخطر على الوحدة، بل كضمانة لها، لأنها تخلق شعوراً بالمشاركة والانتماء، عوضاً عن الإقصاء والإكراه.
سوريا اليوم: الحاجة إلى نموذج تعددي ومرن
في السياق السوري، لا يمكن الحديث عن إعادة الإعمار من دون إعادة التفكير في شكل الدولة. فالحديث عن “العودة إلى ما قبل 2011” هو تجاهل للتغير الجذري في وعي الناس وعلاقتهم بالسلطة. الشباب الذين خاضوا الثورة، النساء اللواتي تحملن العبء الأكبر من الحرب، والمجتمعات التي بنت مؤسساتها الذاتية في فراغ الدولة — جميعهم لن يقبلوا بعد اليوم بالخضوع لمركز يتحكّم بمصائرهم. النموذج اللامركزي هو ما يمكن أن يتيح لكل منطقة التعبير عن خصوصيتها، وتنظيم ذاتها وفقًا لاحتياجاتها، دون أن تنفصل عن بقية البلاد. ويتطلب ذلك نظاماً تشاركياً مرنًا يعترف بالاختلاف، ويوزّع السلطة والثروة، ويبني دولة لا تقف فوق المجتمع، بل تنبع منه.
من الدولة القومية إلى المجتمع الديمقراطي
ما نحتاجه اليوم لا يقتصر على “حلّ سياسي”، بل يتطلّب تحوّلًا مفاهيمياً: أن نخرج من عباءة الدولة القومية المركزية، ونتجه نحو مجتمع ديمقراطي لا مركزي، تقوده مجالس منتخبة، وتُبنى قراراته على الحوار والتوافق، لا على القوة والقسر. اللامركزية ليست مجرّد إصلاح دستوري، بل هي نقلة في الوعي: من شعب يُقاد إلى مجتمع يُقرر، ومن دولة متعالية إلى شعبٍ مصدرٍ للسلطة. وربما تكون هذه اللحظة التاريخية، رغم مآسيها، هي الفرصة الأخيرة لنمنح سوريا ما حُرمت منه طويلًا: وطناً يحتضن جميع أبنائه وبناته، لا سجناً لأولئك الذين يخالفون “المركز”.