أثار موضوع العدالة الانتقالية في سوريا جدلاً واسعاً عقب سقوط نظام الأسد. فعلى المستوى النظري، بدت العدالة الانتقالية طريقاً نحو الاستقرار الشامل، وأداة لمعالجة الإرث الثقيل من الانتهاكات التي عاشتها البلاد خلال سنوات الصراع. غير أن التطبيق العملي لهذا المفهوم يواجه تحديات كثيرة تفرضها خصوصية الحالة السورية، لاسيما أن تناول العدالة الانتقالية يتطلب إجراءات وآليات قانونية ينبغي أن تُطبّق بواقعية تامة، بعيداً عن الانتقائية، خاصة في بلد عانى غالبية سكانه من التهجير والقتل. وهو ما يستدعي من السوريين اعتماد نهج جامع ومتكامل يؤسس فعلاً لسوريا جديدة، في ظل قناعة راسخة لدى كثيرين أن ذلك لن يتحقق دون رأب الصدع الوطني.
ورغم الأهمية القصوى التي تنطوي عليها العدالة الانتقالية، بما تحمله من مبادئ وآليات مُعترف بها دولياً، إلا أن تنفيذها الفعلي قد ينطوي في بعض الحالات على مخاطر جديدة تهدد الاستقرار طويل الأمد، بل وقد تعيد إنتاج السلطوية من جديد، ما لم تُراعَ الخصوصيات المحلية والإقليمية، وما لم تحظَ بدعم سياسي ومدني حقيقي.
العدالة الانتقالية.. ملامح ومقاربة خاصة
وفي هذا السياق يرى المحامي والناشط الحقوقي وعضو الاتحاد الوطني السوري الحر، سمير البطل، حول مسار العدالة الانتقالية في سوريا: “أولًا، لمناقشة موضوع العدالة الانتقالية بشكل عام لا بد من الإحاطة بمفهومها، والغرض من تطبيقها وأهدافها. فالعدالة الانتقالية تشير إلى الكيفية التي تتعامل بها المجتمعات مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتُكبت في سياقات استثنائية مثل الثورات أو الحروب أو حالات التمرد، كما هو الحال في سوريا، حيث شهدت البلاد ارتكاب جرائم ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية من قبل مختلف الأطراف المتصارعة. ونظراً لعدم جاهزية المحاكم الوطنية للتصدي لمثل هذه الانتهاكات خلال المرحلة الانتقالية، نشأت الحاجة لإيجاد بدائل قانونية تضمن إحقاق الحق وإنصاف الضحايا ومحاسبة الجناة، وهو ما يبرر تبني مبدأ العدالة الانتقالية.”
اقرأ/ي أيضاَ: مطالب السوريين في حماة.. إصلاح وتغيير وترقّب لعمل الحكومة الجديدة
وحول أهداف العدالة الانتقالية قال : “هي تهدف إلى وقف الانتهاكات المستمرة، والتحقيق في الجرائم الماضية، وتحديد المسؤولين عنها ومحاسبتهم، وتعويض الضحايا، ومنع تكرار الانتهاكات مستقبلاً، والحفاظ على السلام ومنع الانتقام، وتعزيز المصالحة على المستويين الفردي والوطني، وبناء الثقة في مؤسسات الدولة والقضاء، وإصلاح الأجهزة التي ارتكبت الانتهاكات أو تقاعست عن منعها.”
ويتابع: “لقد تم تطبيق العدالة الانتقالية في دول شهدت أحداثاً كبرى وجرائم ضد الإنسانية، كما في جنوب إفريقيا والأرجنتين وتونس وليبيا. وفي الحالة السورية، أصدر الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، المرسوم التشريعي رقم /20/ لعام 2025، القاضي بتشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية استناداً إلى أحكام الإعلان الدستوري، وبدافع الإيمان بضرورة تحقيق العدالة كركيزة أساسية لبناء دولة القانون، وضماناً لحقوق الضحايا وتحقيقاً للمصالحة الوطنية. وقد أُنيط بالهيئة كشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام السابق، ومساءلة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية، إلى جانب جبر الضرر الواقع على الضحايا وترسيخ مبادئ المصالحة وعدم التكرار. وقد تم تعيين رئيس للهيئة وتكليفه بتشكيل فريق العمل ووضع النظام الداخلي خلال ثلاثين يوماً من الإعلان، مع منح الهيئة شخصية اعتبارية واستقلالاً مالياً وإدارياً، لمباشرة مهامها على كامل الأراضي السورية.”
إلا أن الحقوقي سمير البطل يوضح أن مرسوم تشكيل الهيئة، رغم ضرورته، أثار انتقادات عدة، أبرزها اقتصاره على ملاحقة الجرائم التي ارتكبها النظام السابق وحلفاؤه فقط، دون التطرق إلى الجرائم التي ارتكبتها أطراف أخرى. وهو ما اعتُبر مساساً بمصداقية الهيئة وتهديداً لحقوق عدد كبير من الضحايا. وفي هذا السياق، دعت منظمة “هيومن رايتس ووتش” بتاريخ 20 أيار 2025، الحكومة السورية إلى ضمان إشراك الناجين والمجتمعات المتضررة بشكل جوهري في مسار العدالة الانتقالية. وأكدت المنظمة أن المرسوم يغفل ضحايا الانتهاكات التي ارتكبتها جهات غير حكومية، ولا يوضح آليات مشاركة الضحايا في عمل اللجنة.
وأضافت أن الفظائع الأخيرة وتصاعد الخطاب الطائفي يبرران الحاجة الماسّة إلى عدالة انتقالية شاملة لكل السوريين، معتبرة أن الحكومة تواجه اليوم مفترق طرق: فإما أن تتبنى نهجاً حقيقياً يركز على الضحايا ويضمن حقوق جميع الناجين، أو تواصل الإقصاء وتعميق الانقسام.
وبناءً على ما سبق، يرى البطل أنه من الضروري تحديد معيار موضوعي لإحالة الجرائم إلى الهيئة، معيار يقوم على طبيعة الجريمة وجسامتها، لا على هوية الجاني أو انتمائه، لأن ذلك وحده يشكل مدخلاً سليماً نحو العدالة.
خصوصية المقاربة السورية لمبدأ العدالة الانتقالية
يتابع البطل: “إن تركيبة المجتمع السوري متعددة الإثنيات والديانات والطوائف، وبدلاً من أن تشكل مصدر غنى، تحولت للأسف إلى سبب للتفرقة والتناحر في ظل الأحداث الكارثية والانتهاكات التي رافقت الصراع. ومن هنا لا بد أن تكون مقاربة العدالة الانتقالية في سوريا مختلفة عما جرى في تجارب دول أخرى. يجب أن تنطلق من الواقع المحلي وظروفه، وأن تُصاغ بتأنٍ يراعي آثار الصراع على الأفراد والمجتمع والدولة ككل. فالمطلوب هو وضع آليات دقيقة تضمن إنصاف جميع الضحايا، بغض النظر عن انتماءاتهم، ومحاسبة الجناة، وإشراك المتضررين في العملية، حتى نحقق مصالحة حقيقية وسلمًا أهلياً دائماً، ونتجنب الفوضى.”
بما أن الضحايا هم محور العدالة الانتقالية، فإن الاعتراف بأهميتهم عند تصميم وتنفيذ العملية أمر لا بد منه. يجب أن تحترم العدالة الانتقالية كراماتهم واهتماماتهم وتوقعاتهم. ولهذا لا بد أن تستند إلى السياق المحلي الخاص بكل بلد، وأن تكون وطنية تنبع من إرادة المجتمعات المحلية ومؤسسات الدولة معاً، وأن تشمل جميع أصحاب المصلحة دون تمييز، وأن تضع الضحايا في صلب العملية. كذلك، لا بد أن تكون هذه العدالة قائمة على المشاركة والتمكين، بحيث تتيح للضحايا والمجتمعات المتضررة أن يكونوا شركاء حقيقيين في تصميم وتنفيذ الإجراءات، ما يسهم في تحويلهم إلى فاعلين حقيقيين في مسار المصالحة والتغيير.
اقرأ/ي أيضاً: من الانتقال السياسي إلى بناء الدولة.. أولويات المرحلة السورية القادمة
وأخيراً، يجب أن تكون هذه العدالة انتقالية بالمعنى العميق: لا تتوقف عند الماضي، بل تنظر إلى المستقبل وتعمل على تغيير هياكل الظلم، ومظاهر التمييز، والإفلات من العقاب، حتى تصبح أداة لتحول مجتمعي شامل يعزز السلام والأمن والديمقراطية.
إذا ما استوفت العدالة الانتقالية هذه الشروط، فإنها تخلق تحولاً مستداماً في المواقف والسلوكيات، وهو ما يتطلب إشراكاً واسعاً لمنظمات المجتمع المدني في صناعة القرار.
وفي السياق السوري، شهدت المرحلة الأخيرة قراراً بتجميد العقوبات الأمريكية المفروضة على البلاد، وهو ما يُرتقب أن يُحدث تأثيراً مباشراً وغير مباشر على مسار العدالة الانتقالية.
تجميد العقوبات وتأثيره على العدالة الانتقالية
وحول هذا الموضوع، يضيف المحامي والناشط الحقوقي سمير البطل : “لا شك أن تنفيذ العدالة الانتقالية يتطلب مؤسسات فعالة، من محاكم ولجان تحقيق وكوادر بشرية متخصصة، وهذا يتطلب إمكانيات مادية ولوجستية كبيرة قد تعجز الدولة حالياً عن توفيرها. ومن هنا، فإن تجميد العقوبات الأمريكية والأوروبية يشكل خطوة بالغة الأهمية، لأنه يفتح الباب أمام تدفق الموارد، سواء عبر المساعدات الإنسانية أو الاستثمارات، ويتيح إعادة بناء مؤسسات الدولة وفق معايير حديثة، ويعزز من دورها في ترسيخ القانون. هذا بدوره يسهم في إعادة الثقة بالمؤسسات الوطنية، وعلى رأسها المؤسسات القضائية، ويفتح الطريق أمام تحقيق عدالة انتقالية حقيقية من خلال التواصل مع دول ومنظمات تملك خبرات متقدمة في هذا المجال. كما يبعث الأمل في نفوس السوريين بإمكانية الخروج من المأساة نحو مستقبل أكثر استقراراً وسلمًا.”
معن الجبلاوي- اللاذقية