بقلم رياض درار
جاء الاتفاق بين الحكومة الانتقالية في دمشق وقوات سوريا الديمقراطية في مرحلة انتقالية تلت اتفاقات دولية وداخلية أفضت إلى تشكيل قيادة جديدة لـ سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد وفراره من البلاد.
شكّل العاشر من آذار توقيتاً مناسباً للجميع، إذ كانت “قسد” تتعرض لهجمات متواصلة من فصائل مدعومة من تركيا على سد تشرين، فيما كانت فصائل تابعة للنظام الجديد ترتكب انتهاكات في الساحل السوري، مما شوّه صورة النظام وادعاءاته بالعمل على وحدة البلاد وتحقيق الأمن للسوريين.
برز آنذاك تحول سياسي وسط حديث عن عملية انتقالية، ودستور جديد، ومؤتمر حوار وطني، إلى جانب ضغوط إقليمية ودولية لإيجاد حلّ شامل، وسعي لدمج الإدارة الذاتية وممثليها العسكريين والسياسيين في صيغة مستقبلية للحكم.
وقد تزامن الاتفاق مع تطلع السوريين إلى إنهاء الصراع وإعادة بناء الدولة على أساس عقد اجتماعي جديد، ما جعل خبر الاتفاق يلقى صدى واسعاً وفرحاً عاماً في الشارع السوري.
اقرأ/ي أيضاً: الدولة المركزية.. احتكار باسم “الوحدة”
ومن أبرز نتائج الاتفاق الاعتراف المتبادل بين القيادة السورية الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية كشريك أمني وسياسي فاعل في إدارة المرحلة المقبلة. ونصّ الاتفاق على دمج تدريجي لقوات سوريا الديمقراطية ضمن الجيش الوطني السوري، وعلى بدء مفاوضات بين الحكومة والإدارة الذاتية حول توزيع الموارد الطبيعية، وتمثيل المكونات في مؤسسات الدولة على أساس الكفاءة، وضمان حقوق الكرد كمكون أصيل، بما يشمل حقوق المواطنة والحقوق الدستورية كافة.
كما أكد الاتفاق على ضمان حقوق جميع السوريين في العملية السياسية وفي مؤسسات الدولة، بعيداً عن الخلفيات الدينية والعرقية، ورفض دعوات التقسيم وخطاب الكراهية ومحاولات بث الفتنة بين مكونات المجتمع، وتناول قضايا أساسية كوقف إطلاق النار، وعودة المهجرين، ومحاربة الإرهاب والتطرف.
هدفت المفاوضات المباشرة التي أعقبت الاتفاق إلى وضع آليات واضحة لتوزيع الموارد، وضمان تمثيل عادل للمكونات، وتحديد خطوات المشاركة في السلطة. غير أن الاستجابة لتلك البنود لم تكن بالسرعة المرجوة، بسبب صدور الإعلان الدستوري بعد ثلاثة أيام فقط من توقيع الاتفاق، والذي جاء متعارضاً مع بنوده، إذ أعاد تركيز السلطة بيد شخص واحد فوّض بصلاحيات تعيين أعضاء مجلس الشعب، وتشكيل الحكومة، وتعيين المحكمة الدستورية، جامعاً السلطات الثلاث دون مساءلة، ومانحاً البلاد نظاماً لا يتضمن أي إشارة إلى الديمقراطية، أو الانتخابات، أو تداول السلطة.
ومع ذلك، يُنظر إلى اتفاق العاشر من آذار كمنعطف جديد في العلاقة بين دمشق والإدارة الذاتية، بعد سنوات من القطيعة، إذ أنهى الشكوك حيال نوايا الإدارة الذاتية بالانفصال، وفتح الباب أمام الاعتراف بها شريكاً في بناء سوريا المستقبل، كما مهد الطريق نحو دستور توافقي تعددي يُنهي الحكم الشمولي المركزي، ويتيح انفراجاً سياسياً تشارك فيه كل مكونات المجتمع، من عرب وكرد وسريان آشوريين وغيرهم.
وقد برزت مؤشرات إيجابية على تغيّرٍ في الموقف التركي، حيث توقف القتال في سد تشرين، وبدأت حالة من الانفراج الأمني في المنطقة.
يشكل هذا الاتفاق نقطة تحول مفصلية في التاريخ السوري الحديث، إذا ما استُكمل مساره ضمن الإطار الزمني المحدد حتى نهاية العام الجاري. فهو يعيد رسم العلاقة بين المركز والأطراف، ويضع أسساً لنظام لا مركزي قادر على حل الأزمات البنيوية التي ولدها الحكم المركزي، ما يجعله خطوة أساسية في مسار تجاوز مآسي الحرب وإعادة بناء الدولة.
غير أن نجاح الاتفاق مرهون بوجود ضمانات دستورية وسياسية ملزمة، وباستعداد دمشق للتعامل الواقعي مع التحديات الراهنة.
شهدت المرحلة التي تلت الاتفاق مفاوضات بين دمشق والإدارة الذاتية، حملت طابعاً سورياً – سورياً، وبدأت بلقاءات تمهيدية وتبادل وفود، ثم تركزت على ملفات أمنية وعسكرية، وموضوعات تتعلق بإعادة هيكلة الجيش الوطني، والإدارة ضمن مؤسسات الدولة، إلى جانب ملفات الخدمات والموارد، والتعليم، والصحة، ومخيمات النازحين.
لم تصل هذه الحوارات إلى العمق المطلوب، لكنها شكلت بداية لتفاهم متبادل حول القضايا المطروحة، وظهرت بوادر لتنفيذ بعض البنود، مثل عودة نازحين من مخيم الهول، وحل مشكلات تتعلق بالامتحانات ومشاركة الطلاب من مناطق شمال وشرق سوريا.
كما نجحت المفاوضات في ملفات محلية حساسة مثل الوضع في الشيخ مقصود والأشرفية في حلب، وسُجّل تبادل أسرى وسحب جزئي للقوات، في ظل مرونة نسبية من الطرفين، ودور نشط من التحالف الدولي لدفع العملية نحو النجاح.
تزداد أهمية استمرار المفاوضات في ظل الضغوط الدولية والإقليمية التي يتعرض لها الطرفان، وفي ظل الفراغ السياسي في الملف السوري على المستوى الدولي، ما يحتم البحث عن حلول داخلية مدعومة بضمانات دولية واتفاقات مؤسساتية مقبولة من جميع الأطراف.
اقرأ/ي أيضاً: الشباب وبناء المجتمعات.. قراءة في التجربة السورية بين الاستبداد والمنفى والنهضة
يتطلب نجاح المفاوضات تقديم تنازلات متبادلة، ووقف التدخلات الإقليمية التي قد تعرقل التقارب، إضافة إلى ضرورة استمرار الدعم الأميركي للاتفاق، وحثّ حكومة دمشق على اتخاذ مواقف أكثر إيجابية، لا سيما بعد رفع العقوبات عنها.
تتمسك الإدارة الذاتية بمجموعة من الثوابت لإنجاح أي اتفاق نهائي، على رأسها الاعتراف المتبادل بينها وبين الدولة السورية ضمن إطار وحدة الأراضي السورية ونظام لا مركزي، وضمان حقوق المكونات في دستور جديد، ودمج “قسد” في الجيش السوري ضمن آلية عادلة وآمنة لتوزيع القوات في المناطق.
يتطلب تحقيق هذه الأهداف توافقاً وطنياً واسعاً، ومرونة في التفاوض، وانفتاحاً في الصياغات الدستورية لاحقاً، إلى جانب دعمٍ من قوى دولية فاعلة كأميركا وبعض الدول العربية.
ومع ذلك، تبقى مسارات التفاوض محفوفة بصعوبات جوهرية، أبرزها رفض حكومة دمشق للامركزية، وتشبثها بعقيدة حكم مركزي فردي، يتناقض مع رؤية التعددية والديمقراطية التي تطرحها الإدارة الذاتية. يضاف إلى ذلك خطاب إعلامي رسمي يروّج للشكوك، ويعمل على إثارة الكراهية والانقسام بين مكونات المجتمع.
ولا يمكن تجاهل دور تركيا التي ترفض مشروع الإدارة الذاتية وتسعى لإجهاضه، وتواصل اتهام “قسد” بالإرهاب، في مقابل دعم أميركي واضح للإدارة، لكنه لا يزال بحاجة إلى توضيح الموقف النهائي من العلاقة بين دمشق و”قسد”، ودعم الاتفاق السياسي بين الطرفين.
لقد فتح هذا الاتفاق باباً ظل موصداً لسنوات، ورغم أنه لا يزال في طور الاختبار، إلا أنه يسير في مسار حذر، تحكمه النوايا السياسية، ويحتاج إلى وقت طويل كي يبلغ النجاح المنشود.