بقلم: ماجد الكرو
لطالما شكلت اللامركزية أحد أبرز النماذج السياسية والإدارية الرامية إلى توزيع السلطة والصلاحيات بين الحكومة المركزية والسلطات المحلية، ويظهر هذا النموذج في بعدين أساسيين: الأول إداري يتمثل في نقل بعض الاختصاصات التنفيذية إلى هيئات محلية دون المساس بوحدة الدولة السياسية، والثاني سياسي يتجسد في تشكيل مجالس منتخبة محلياً بسلطات تشريعية أو تنفيذية مستقلة نسبياً.
اليوم، وفي ظل المرحلة الانتقالية التي تمر بها سوريا بعد أكثر من عقد من الحرب والانقسام، يطرح موضوع اللامركزية بإلحاح ضمن النقاش الوطني حول مستقبل الدولة. فبينما يراها البعض فرصة لتأسيس نظام أكثر عدالة وشمولية، يتوجس آخرون من احتمالات تفكيك البلاد وانهيار الهوية الوطنية الجامعة. وهنا يبرز التساؤل المركزي: هل تمثل اللامركزية أداة لإنقاذ الدولة السورية، أم أنها مقدّمة لتفكيكها؟
اقرأ/ي أيضاً: من كوباني إلى الدويلعة… الإرهاب فكر، والفكر لا يموت
قبل عام 2011، سادت في سوريا مركزية شديدة جعلت العاصمة دمشق تحتكر أغلب السلطات السياسية والاقتصادية والأمنية. وقد أدى هذا النموذج إلى خلل صارخ في توزيع الموارد والخدمات، حيث احتكرت العاصمة وبعض المدن الكبرى الامتيازات، بينما عانت المناطق الطرفية مثل دير الزور والحسكة والسويداء من تهميش مزمن. هذا التفاوت في التنمية والخدمات ولد شعوراً بالغبن في أوساط مجتمعية واسعة، وأدى إلى تآكل الانتماء الوطني لصالح ولاءات مناطقية أو طائفية نشأت كرد فعل على الإقصاء والتمييز.
في ضوء هذه الخلفية، تطرح اللامركزية كفرصة لإعادة بناء العلاقة بين المركز والأطراف على أسس أكثر عدلاً وتوازناً. إذ تتيح للمواطنين المشاركة الفعلية في صنع القرار عبر انتخاب ممثليهم المحليين، ما يعزز من شرعية المؤسسات ويرمم الثقة بين الدولة والمجتمع. كما تسمح بنقل صلاحيات التخطيط والتنفيذ إلى السلطات المحلية، بما يفتح الباب أمام تنمية أكثر توازناً وتوزيع عادل للموارد، وهو ما يمكن أن يسهم في معالجة التفاوتات البنيوية التي ساهمت في تأجيج الأزمة.
ومن حيث البناء الوطني، توفر اللامركزية بُنية مرنة يمكن من خلالها تعزيز الهوية الوطنية من القاعدة إلى القمة، عوضاً عن فرض وحدة شكلية من المركز. احترام الخصوصيات الثقافية والجغرافية والاجتماعية للمكونات والمناطق لا يعني بالضرورة الانفصال، بل يمكن أن يكون ركيزة لتعميق الانتماء المشترك ضمن إطار دولة جامعة.
وفي التجربة السورية المعاصرة، برزت بعض النماذج التي قدمت رؤى متقدمة للحكم المحلي، أبرزها نموذج الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، التي أسست هياكل مدنية منتخبة ومجالس محلية بصلاحيات تشريعية وإدارية، وشهدت مشاركة فاعلة للمرأة والأقليات. في المقابل، حاولت الحكومة السورية المؤقتة في مناطق المعارضة إقامة هياكل محلية مشابهة، في حين أبقت الحكومة المركزية في دمشق على نموذجها التقليدي، مكتفية بتعديلات شكلية في قانون الإدارة المحلية دون نقل صلاحيات فعلية.
تؤكد التجارب الدولية بدورها أن اللامركزية لا تعني التفكك بالضرورة، بل قد تكون وسيلة فعالة لتعزيز التماسك الوطني. ففي ألمانيا، على سبيل المثال، يقوم النظام الاتحادي على ولايات تملك صلاحيات واسعة، ضمن إطار دستوري يضمن وحدة الدولة. أما السويد، فقد اعتمدت نموذجاً لامركزياً قوياً أسهم في تحسين مستوى الخدمات وضمان المشاركة المجتمعية، دون الإخلال بوحدة المؤسسات المركزية.
اقرأ/ي أيضاً: الدولة المركزية.. احتكار باسم “الوحدة”
لكن من الضروري الإشارة إلى أن اللامركزية ليست غاية في ذاتها، بل أداة لتحسين الإدارة وتعزيز العدالة. ونجاحها لا يرتبط فقط ببنيتها القانونية، بل يتوقف على توفر شروط سياسية ومجتمعية أساسية، في مقدمتها وجود نية وطنية تتجاوز المصالح الضيقة، وشراكة حقيقية بين المكونات، وتوافق على شكل الدولة وهويتها ووحدتها الجغرافية، فضلاً عن ضمانات دستورية توازن بين المركز والأطراف. وفي غياب هذه الشروط، قد تتحول اللامركزية إلى أداة لفرض الأمر الواقع أو إلى شكل مقنع من الفدرلة المثيرة للانقسام.
إن التجربة السورية المريرة مع المركزية المفرطة أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك أن استمرار هذا النموذج لم يعد ممكناً. لكن التحول نحو اللامركزية يجب أن يكون مدروساً، قائماً على عقد اجتماعي جديد ودستور حديث يُكرّس اللامركزية في إطار وطني موحد، ويمنح المجالس المحلية صلاحيات حقيقية مدعومة بموارد مالية وإدارية كافية.
ولضمان ألا تتحول اللامركزية إلى أداة للتمزيق، لا بد من تحصين الوحدة الوطنية عبر نظام تعليمي موحد، إعلام وطني جامع، ورموز دولة تمثل جميع السوريين. في هذا السياق، تصبح اللامركزية الوسيلة الأجدى لإعادة بناء الدولة السورية على أسس ديمقراطية وعادلة، لا بوابة إلى تقسيمها، إذا ما أُحسن تبنيها وتوفير الضمانات اللازمة لنجاحها.