ككرة الثلج هي أزمات السوريين. انهيار وفقر وعوز يطال مفاصل حياتهم، وعلى وقع تدني المستويات الإقتصادية والمعيشية في مناطق سيطرة دمشق، الأمر الذي طالت تأثيراته كل شيء، بما في ذلك القطاع الدوائي، فعلى تردي المنظومة الطبية في مناطق سيطرة دمشق، كان لقطاع الأدوية النصيب الأكبر من هذا الأمر، وهو ما انعكس سلباً على حياة السوريين عموماً، والمرضى منهم على وجه الخصوص، وللمفارقة فإن رواية السلطة دائماً ما تدّعي رعايتها للقطاع الطبي والدوائي، وتقول في كل مناسبة، بأن هذا القطاع ورغم تغطية نفقاته المرتفعة، إلا أنها تُقدمه للسوريين بشكل مجاني، أو بسعر التكلفة فقط، وهذه الرواية حقيقةً تُجافي الواقع.
غالبية السوريين في مناطق سيطرة السلطة، يعانون الأمرين للحصول على عبوة دواء، جراء الأزمات التي تُهندسها السلطة، وكذلك نتيجة تردي مستويات معيشة السوريين، وتدني أجورهم التي لا تكفي لعبوة أو عبوتين من بعض الأدوية المُعالجة للأمراض المستعصية، ليكون واقع القطاع الدوائي في سوريا، بمجمل تفاصيله، تحدياً أمام المرضى وذويهم، لا سيما أن رحلة البحث عن دواء بعينه، تُشكل هماً لغالبية السوريين، في ظل ارتفاع أسعار الأدوية، وفقدان زمر دوائية من الصيدليات، الأمر الذي يُضطر بموجبه السوريين، للبحث عن الدواء في السوق السوداء.
شاهد/ي أيضًا: قطاع الصناعة في حلب يتراجع والأسباب كثيرة
إحصائيات عديدة رصدت الواقع الدوائي في مناطق سيطرة السلطة، ووفق تلك الإحصائيات، فإن معظم الأصناف الدوائية، ارتفعت بنسبة ما بين 50 إلى 100 بالمئة، خلال مدة عام تقريباً، حيث ارتفعت أسعار الكابسول والتابليت بنسبة 65%، والكريمات والمراهم بنسبة 75%، في حين الشرابات والملعقات ارتفعت 85%، أما الأدوية العقيمة مثل الأمبولات والسيالت وقطرات العين ارتفعت بنسبة 100 بالمئة.
وتزامناً مع تدني سعر صرف الليرة أمام الدولار، فقد ارتفعت أسعار الدواء في مناطق سيطرة السلطة، ومنذ مطلع الشهر الجاري، بنسب كبيرة تتراوح بين 30% و40% للعديد من الأصناف الدوائية، فضلاً عن انتعاش ظاهرة بيع الدواء بالسوق السوداء بأسعار مضاعفة، وهو ما يفاقم من معاناة المرضى الذين يضطرون أحيانا للانتظار أسابيع حتى يتمكنوا من الحصول على دوائهم، إذ تشهد أسعار الأصناف الدوائية في مناطق سيطرة دمشق، ارتفاعاً كبيراً وبوتيرة متسارعة، بلغت ذروتها في الأيام القليلة الماضية، لا سيما مع الانحدار المستمر في قيمة الليرة السورية، وانقطاع مئات الأصناف الدوائية من الصيدليات في البلاد.
وزارة الصحة لدى السلطة، رفعت التسعيرة المعتمدة للعديد من الأصناف الدوائية في شباط/ فبراير الماضي، وذلك لتغطي ما أسمته الكلفة التشغيلية لبعض تلك الأصناف الدوائية، ولتوفير الأدوية الضرورية في الأسواق المحلية، بحسب مديرية الشؤون الصيدلانية في الوزارة، في المقابل فقد جددت شركات ومعامل الأدوية مطالباتها برفع الأسعار لتغطي كلفة تشغيلها؛ حيث طالب في وقت سابق، وفق تصريحات نشرتها صحف محلية، زياد أوبري المدير التنفيذي لشركة “أوبري” للصناعات الدوائية في مناطق سيطرة السلطة، برفع الأسعار لتتوافق مع معطيات العام الحالي، مشيرا إلى أن الأسعار لا تزال مبنية على معطيات عام 2021.
والد أحد الأطفال ويُدعى فادي، “رفض الكشف عن اسمه”، أكد أن طفله يُعاني من “الصرع”، وبحسب ما قاله، فإن معالجة الصرع تهدف إلى منع حدوث النوبات من خلال المحافظة على تراكيز فعالة من الدواء المضاد للصرع في البلاسما، لذا يعد ضبط الجرعة بعناية أمراً ضرورياً، ويتابع قائلاً تُعطى أغلب مضادات الصرع عند استخدامها بالجرعات الوسطية مرتين في اليوم، أما دواء الفينوباربيتال phenobarbital وأحياناً الفينيتوئين phenytoin فيمكن إعطاؤهما.
يقول والد الطفل فادي ( 12 عاما)، منذ أسبوع وأكثر وأنا أبحث عن هذا الدواء، ونشرت في صفحات التواصل الاجتماعي حالة طفلي، للمساعدة في تأمين هذا الدواء، إلى أن تواصل معي فاعل خير منذ أيام، وأخبرني أنه بإمكاني الحصول على علبة مقابل 76 ألف ليرة سورية. وفي مثل هذه الحالة، فقد أضطر والد الطفل فادي، إلى شراء الدواء بثلاثة أضعاف سعره في السوق، بعد أن فقد الأمل في العثور عليه في الصيدليات، ولا بد من تأمين الدواء قبل نفاذ الكمية المتواجدة لديه، خشية أن يدخل طفله في نوبات صرع شديدة.
واقع الحال يؤكد، بأن غالبية الزمر الدوائية بحسب الصيدلاني “ط ق”، وتحديداً المرتبطة بالجملة العصبية المركزية، ومثلها أدوية القلب، غير موجودة، لكن يتم تأمينها بأضعاف سعرها من تُجار السوق السوداء، وفي ذات السياق، فإنه ورغم الإجراءات التي اتخذتها الوزارة، فإن الصيدليات لا تزال تعاني من شح مستمر في مختلف الأدوية، وهو ما أدى إلى انتعاش السوق السوداء لبيع الأدوية المهربة أو المخزنة في دمشق وريفها؛ حيث تُباع الأدوية بأسعار مضاعفة، مما ينعكس بشكل سلبي على المرضى من الشرائح الأكثر فقرا أو الذين يعانون من أمراض مزمنة.
مديرية الشؤون الصيدلانية في وزارة الصحة لدى السلطة، بررت ارتفاع أسعار الأدوية، نتيجة ارتفاع سعر الصرف وفق نشرة المصرف المركزي، وارتفاع تكاليف حوامل الطاقة، وتزعم السلطة في دمشق، بأن رفع أسعار الأدوية كان ضرورياً، باعتبار أن ذلك سوف ينعش الصناعة الدوائية، خصوصاً أن تكاليف الإنتاج للكثير من المستحضرات أصبحت أغلى من سعر المستحضر ذاته، إذ يُقدر عدد الأصناف الدوائية التي رُفعت أسعارها نحو 13 ألف مستحضر.
شاهد/ي أيضًا: القطاع الصحي في حلب من سيء إلى أسوء
السيدة سماح، تروي لنا معاناتها في تأمين الدواء لوالدها (72 عاما)، الذي يعاني من اعتلال عضلة القلب التوسعي، وتؤكد سماح، أن الدواء غير متوفر في الصيدليات في دمشق، وسألت أصدقاءها في حلب وطرطوس، وأيضاً غير متوفر، وتبحث سماح عن دواء ساكوبتريل/فالسارتان (Entresto)، الذي ما بين حاصرات مستقبل الأنغيوتنسين، ونوع آخر من الأدوية لمساعدة القلب على ضخ الدم إلى سائر الجسم بصورة أفضل.
تتابع سماح وتقول، أن الدواء انقطع من حوالي خمسة أشهر، ولما توفر في الأسواق، كان ثمنه قد تضاعف، وتقول سماح كنت في السنوات الماضية أشتري لوالدي العقار الأجنبي، أما اليوم فبلغ سعر العقار الوطني منه 35 ألف ليرة سورية، وبما أن والدي يحتاج لعلبتين شهريا يصبح المبلغ 70 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل 3 أرباع مرتبي الشهري.
ومع أن تأمين الدواء لوالد سماح أمر لا بدّ منه، غير أنه في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة، تقول سماح، اضطررنا لشراء الدواء بالظروف، وأحيانا نقطع العلاج عن والدي أسبوعا أو اثنين ريثما أستطيع وشقيقتي تأمين ثمن المظروف الواحد منه.
واقع القطاع الدوائي في مناطق سيطرة السلطة، يؤكد بأن واقع توفر وغلاء أسعار الأدوية، يُعد من أبرز التحديات أمام المرضى وذويهم، لا سيما مع تدني قيمة الليرة السورية، وارتفاع أسعار غالبية الزمر الدوائية، وفقدانها من الصيدليات، واستحالة تأمينها في بعض الحالات، وسط غياب فجّ من قبل السلطة الحاكمة في دمشق، وتقديمها تبريرات واهية، كل ذلك يجعل غالبية السوريين يموتون بصمت.
عمار المعتوق-دمشق