تُعد السلطة في دمشق ورئيسها من أكثر الرؤساء في العالم العربي إصداراً لمراسيم العفو العام ففي المدة ما بين الأعوام 2011 و 2023، أصدر أكثر من عشرين “مرسوماً للعفو” كان آخرها المرسوم رقم 36 لعام 2023 بتاريخ 16/11/2023.
وتتعدد أساليب السلطات الاستبدادية في قمع المعارضين وكمّ الأفواه ومحاربة التحركات الجماهيرية، واستغلال الثروات في سبيل تمويل ودعم أساليبها لتثبيت حكمها وبقائها وترهيب المجتمع وتطويعه.
فمنذ وصول حزب البعث إلى الحُكم أواخر ستينات القرن الماضي، صُدرت الكثير من القوانين والمراسيم التشريعية المتعارضة مع الدستور القائم والتي أسست لحكم استبدادي وأنشأت محاكم استثنائية وميدانية عسكرية وأمن دولة واقتصادية وغيرها.
أين المعتقلين؟
في الوقت الذي تتعالى الأصوات المطالبة بكشف وتبيان مصير المختطفينَ والمعتقلينَ في سوريا، تتواصل عمليات الاعتقال التعسفي والاختطاف في ظل الدور الدولي الخجول من الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية والإنسانية العاملة والفاعلة في الملف السوري.
شاهد/ي: عمليات داعش الإرهابية .. تهديداتٌ لا زالت قائمة
منذ بدء الأزمة السورية وتحوّل الحراك الشعبي إلى نزاعٍ دامٍ بين طرفين: السلطة من جهة والفصائل المعارضة من جهة أخرى، عكفت السلطة في دمشق على قمع الأصوات واتّباع إسلوب الاعتقال والخطف والتغييب القسري، استناداً للمراسيم التي يصدرها رأس السلطة التنفيذية وتكرّس ظهوره بمظهر القوي المتحكم برقاب الشعب السوري ليعفو عمن يريد ويسجن مَن يريد.
وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإنه وثّق اعتقال نحو مليون مدني سوري وقتل ما يزيد عن 105 آلاف منهم تحت التعذيب بيد السلطة الاستبدادية على امتداد 12 عاماً من عمر الأزمة السورية وفق آخر احصائية سنوية نشرها المرصد بالتزامن مع الذكرى السنوية لبدء الثورة.
السجون
هناك الكثير من السجون في سوريا خاصةً ضمن العاصمة دمشق حيث لكلّ محافظة سجنها المركزي الخاص بها فضلاً عن وجود سجونٍ في المدن الرئيسية لكن السجون والمعتقلات الأشد فظاعةً هي تلك التي تتبع الأجهزة الأمنية كصيدنايا وتدمر والمزة ودمشق وغيرها.
حظي سجن صيدنايا بسمعةٍ سيئةٍ، فهو يُعد أحد أكبر السجون في سوريا وأفظعها على الإطلاق حيث عرف منذ تشييده في 1987، بأنه سجن عسكري يضم آلاف الجنود والضباط المتّهمين بمخالفة القوانين العسكرية لكنه في واقع الحال كان معتقلاً للمئات من السياسيين السوريين والعرب.
وإذ وثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان أكثر من 105 آلاف فارقوا الحياة داخل المعتقلات الأمنية منهم 30 ألف أو يزيد قتِلوا ضمن سجن صيدنايا، سيء الصيت، حيث أن به الجناح الأحمر المخصص لمن يلصق بهم صفة الإرهاب فخلال فترة الحِراك السّلمي تمّ تحويل كافة الناشطين وحتى الأبرياء إلى هذا السجن، أمثال عبد العزيز الخير ورجاء الناصر وغيرهم ممن غيّبهم الحجز والاعتقال.
شهادة ميدانية
يروي السيد بركات الصالح ( 40 عام) مشاهد مؤلمةً لما عاينه داخل أقبية هذا السجن المظلم فيقول ” خلال احتجاز السلطة للمدنيين فإن التُّهم جاهزة لسجنهم.. لكن كلّ الذين تمّ اعتقالهم لم يكونوا مسلّحين” ويؤكد الصالح، أن المشاهد التي رأيناها شيءٌ لا يطاق ولا يوصف.. فالداخل مفقود والخارج مولود.. ويضيف الصالح أنه تعرّف على أكثر من شخص ممن ظهرت صورهم في قيصر.
ويتابع السجين لما يقارب السّت سنوات قضاها في سجن صيدنايا الشهير برواية تفاصيل عملية اعتقاله التعسفي منذ لحظات دخوله المعتقلات إلى خروجه مشيراً أن “الاعتقال أبشع شيء مرّ على السوريين ” لدرجة أن أخوَين لم يستطيعا التّعرف على بعضهما داخل السجن موضّحاً عدم جدّية وجدوى هذه المراسيم المتتالية حيث لا يزال كثيرون عالقون ضمن أسوار هذه السجون والمعتقلات.
وجدد الصالح مطالباته بالإفراج عن جميع المعتقلين واصفاً الروتين اليومي الذي عاينه مع رفاقه خلال فترة سجنهم ألواناً مختلفة من التعذيب بدءاً من السياط بما يعرف ” الأخضر” وانتهاءً بالحرق والتصفية داخل أجنحة هذا السجن المظلم، ويواصل السيد بركات ” عشنا كأننا في عالم أشباح ” و لم نكن نتوقع خروجنا أحياء”.
وجهة النظر القانونية
يتحدث محامٍ فضل عدم الإفصاح عن اسمه أن إنشاء محاكم الميدان العسكرية مخالفٌ للقوانين الوطنية والدستور والمواثيق الدولية في تشكيلها وطرائق التحقيق وإصدار الأحكام وتأتي هذه الإجراءات كي تحرم المتهم الماثل أمامها من حقوقه في الحصول على محاكمة عادلة والدفاع عن نفسه والطعن في الحكم الصادر عنها إضافة إلى عدم اشتراط أن يكون رئيسها حاصلا على إجازة في الحقوق.
وحيث إن الكثير من الأهالي في كل مرة يستبشرون خيرا بهذه المراسيم خصوصا ممن لديهم معتقلينَ ومفقودينَ ومختفينَ قسراً على أمل خروج أبنائهم أو معرفة مصيرهم على الأقل.
ويذكر المحامي أن المعتقلينَ والعدد الأكبر منهم خلال فترة سنوات الأزمة وجّهت لهم الأجهزة الأمنية تُهم الانتماء إلى تنظيم إرهابي، وقتل الناس وذلك كي لا يشملهم أيّ عفوٍ يصدر وأغلبيتهم صدرت بحقه أحكام إعدام ربما تنخفض إلى المؤبد والمؤبد إلى عشرين سنة هذا أقصى حدٍّ للاستفادة من هذه المراسيم.
رغم التقارير التي كشفتها منظمة العفو الدولية والمنظمات السورية، تبقى عمليات الاختفاء القسري ممنهجة وغير عشوائية وتستند إلى قرارات وتوجيهات مدروسة نُظّمت وأصدرت وفق نظام أمني وعسكري محكم ذي هيكلية مترابطة وتسلسل قيادي متصل بين جميع الإدارات والاجهزة المرتبطة بمراكز الاحتجاز بدءاً من رئاسة الجمهورية وصولاً إلى وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية.
شاهد/ي: الأزمة المعيشيّة في الساحل السوري تتعمّق والأهالي على حافة المجاعة
ويلفت محامٍ آخر عن جلسة ” المحاكمة” بحسب تسمية السلطة في دمشق والإجراءات المتّبعة قبيل الحكم على الضحايا بالإعدام أمام الضابط العسكري إذ يسجّل اسم المعتقل في سجل المحكومينَ ومن ثم يجري تحميل جثث الضحايا التي تحمل أرقاما ترمز لها في شاحنات كبيرة ونقلها ودفنها في مقابر جماعية حينها يُشطب اسم المعتقل من سجلات السجن ولدى سؤال ذويه عنه يكون الجواب “غير موجود لدينا”.
لمحكمة العدل الدولية رأي أيضاً
وفي وقت لاحق أمر قضاةٌ في محكمة العدل الدولية دمشق باتخاذ إجراءات لوقف التعذيب في إطار ” تدابير طارئة” ضمن قضية رفعتها دولتا هولندا وكندا على دمشق في المحكمة سابقة الذكر.
وقالت رئيسة محكمة العدل الدولية جوان دون هيو: ” لا بد لسوريا أن تتخذ جميع التدابير التي في وسعها منع أعمال التعذيب والمعاملة القاسية وغير الإنسانية أو المذلّة الأخرى، وضمان ألا يرتكب مسؤولوها أو الآخرون الخاضعون لسيطرتها أي أفعال تعذيب”.
وشددت هيئة قضاة المحكمة المؤلفة من 15 قاضياً على حكومة دمشق، بأن تضمن الحفاظ على أي أدلة محتملة حول مزاعم التعذيب بما في ذلك التقارير الطبية وسجلات الوفيات وفق “وكالة رويترز”.
من كل ذلك بات واضحاً خطورة عدم احترام الاتفاقيات الدولية من قِبل السلطة الحاكمة في دمشق والاستهتار بملف القتل والتعذيب والاعتقال والتغييب القسري، وضرورة إيلاء هذا الملف الأهمية القصوى وإيصال صوت المغيّبينَ والمعتقلينَ وأهاليهم إلى العالم والتنبيه من إلصاق صفة الإرهاب لتبرير الاعتقال السياسي والحقوقي والاطلاع على مرافق الاعتقال وحال السجون، وبالتالي الوقوف على حقيقة أوضاع المعتقلينَ ومعرفة مصير من ضاعوا أو قتِلوا في غياهب السجون والمعتقلات.
محمد الدبوس- الرقة