مؤشرات اقتصادية صعبة تؤطّر مصير الاقتصاد السوري بجملة من التحديات والأزمات، فـ سياسات السلطة الحاكمة في دمشق ونهجها الأمني والإدارة الفاشلة لمفاصل الاقتصاد السوري، فاقم الأزمات المعيشية والاقتصادية للسوريين، ولعل السبب الأهم في تفاقم الأزمات المعيشية التي يعاني منها السوريون، يعود بشكل مباشر إلى السيطرة المطلقة على مقدّرات الدولة ووضعها في خدمة السلطة واستثمار الأموال التي هي ملك السوريين، في قضايا تخدم الفرد الواحد، والأهم أن خزينة الدولة تم فتحها لا لتلبية مطالب السوريين وتحسين واقعهم، بل فُتحت لصالح الجهات الأمنية بغية التضييق على السوريين، كما أن العمليات العسكرية كان لها النصيب الأكبر في أموال السوريين. كل ذلك كان سبباً مباشراً ورئيسياً لانهيار الاقتصاد وتفاقم الأزمات وتدهور قيمة الليرة السورية، ليكون الفقر والعوز عنوان يوميات السوريين.
ومنذ تبريد الجبهات في الجغرافية السورية، والانتقال إلى ما أسمته السلطة نهج المصالحات، إلا أن الواقع الاقتصادي والمعيشي للسوريين لم يشهد أي تطورات إيجابية، ورغم جُملة المراسيم والقرارات الاقتصادية، إلا أن الأزمات لم تنتهِ، بل على العكس، إذ يقول السوريون إن تلك المراسيم والقرارات الاقتصادية هي في الأصل وُضعت خدمةً لفئة محددة تعمل في كنف السلطة. كل ذلك أفرز نتائج كارثية طالت السوريين فقط، حيث أكدت العديد من المؤسسات الدولية، ومنها ما أعلنته اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أن نحو 90 في المئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، وأن أكثر من 15 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية.
شاهد/ي: قوى وأحزاب سياسية… مسد نجح في أن يكون مظلة وطنية جامعة لكل السوريين
ويعزو بعض المتابعين للشأن السوري بأن غياب الحل السياسي واستئثار السلطة بمفاصل الاقتصاد السوري، ولّد أزماتٍ متفاقمة وحادة، الأمر الذي أدى إلى تجاوز معدل التضخم في البلاد عتبة 156 في المئة في عام 2023، وكذلك فقد خسرت الليرة السورية كل قيمتها خلال السنة الحالية بمعدل 100 في المئة، بعد أن سجل سعر صرف الدولار الأمريكي الواحد مؤخراً أكثر من 14 ألف ليرة سورية، بعد أن كان يعادل نصف تلك القيمة مطلع عام 2023 ليصبح التضخم، هو السمة الأبرز للاقتصاد السوري في فترة الحرب وخاصة خلال السنوات الأخيرة.
السوريون بلا مدّخرات
سياسات السلطة وبحسب خبيرٍ اقتصادي فضّل عدم الكشف عن اسمه، أنها سرقت ما تبقّى من مدّخرات لدى السوريين، حتى أن التقارير الاقتصادية الأممية تقول إن 90 في المئة من السوريين تحت خط الفقر، لكن أقول بأن 96 بالمئة من السوريين هم داخل دائرة الفقر وانعدام الأمن الغذائي، فالتضخم طال الجميع وكان أشدّ قسوة على الأقلّ دخلاً.
ونوّه الخبير السابق إلى تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” والذي أشارت فيه إلى أن الخسائر الاقتصادية للحرب في سوريا قد بلغت نحو 1.2 تريليون دولار بحلول عام 2022 في حين يحتاج 13.4 مليون سوري إلى مساعدة إنسانية، وبالتالي فإن عام 2024 سيكون عاماً صعباً جداً على السوريين، لا سيما أن السلطة غائبة عن المشهد وتُدير الأزمات على قاعدة “يا بتصيب يا بتخيب”، كل ذلك سيُفاقم أزمات السوريين المعيشية والاقتصادية.
الاقتصاد السوري بلا معالم
واقع الحال يؤكد بأن الاقتصاد السوري في عام 2024 لن يشهد أي نشاط، دليل ذلك إن السلطة عاجزة عن ابتكار حلول اقتصادية إسعافية جراء بيعها كل الأصول السيادية لحلفائها، الأمر الذي كبّل السلطة وسحب الأوراق الاقتصادية من يدها، وقد يقول البعض بأن هذه السلطة لا تزال تدفع رواتب الموظفين، لكن في المقابل فإن هذه الرواتب بلا قيمة ولا تكفي ثلاثة أيام، فالليرة السورية وبلغة الاقتصاديين باتت بلا قيمة، وتحوّلت إلى مجرد أوراق مطبوعة بلا أي تأثير معيشي، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال الموازنة التي أقرّتها السلطة، فقد ارتفعت الموازنة من 750 مليار ليرة سورية في عام 2011 إلى 16.5 تريليون ليرة سورية عام 2023، وهي موازنة لا تتجاوز قيمتها 2 مليار دولار وهي واحدة من أخفض الموازنات المالية في تاريخ سوريا، وفي عام 2024 ستكون الموازنة مضاعفة لتصل إلى 35.5 تريليون ليرة سورية، وبالتالي فإن الليرة السورية فقدت قيمتها المالية، وهو ما نتج عنه تصنيف 96 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر، حيث بات الفرد السوري يتناول وجبة واحدة في اليوم عوضاً عن ثلاث وجبات كما كان سابقاً.
ربطاً بما سبق، وفي ظل تدهور مستمر للاقتصاد، وربطاً بسياسات السلطة، فإن الاقتصاد السوري لا مستقبل له دون حلٍّ سياسي شامل يُنقذ السوريين، لا سيما أن السلطة الحاكمة تعيش في برج عاجي ولا تطالها الأزمات المعيشية والاقتصادية، والأهم من ذلك، أن جُملة السياسات الاقتصادية التي تتخذها السلطة، وضعت قيوداً وضغوط كثيرة على الحركة التجارية في البلاد، وهذا الأمر أيضاً فاقم معاناة التجار والحركة التجارية عموماً في مناطق سيطرة السلطة، ولم تكن قوانين السلطة وحدها محور الأزمة المعيشية والاقتصادية التي يعاني منها السوريين فحسب، بل باتت الميليشيات والحواجز الأمنية تركز اهتمامها على قوافل البضائع المتنقلة عبر حواجزها بغية تحصيل الأتاوات والبضائع بطرق غير شرعية.
الممارسات السابقة ومع سياسات السلطة، كل ذلك أدى إلى خنق التُجار السوريين، وهذا ما أكده رجل الأعمال أحمد س، بقوله أفضّل الانسحاب من سوريا ومن أسواقها بأقل الخسائر الممكنة للحفاظ على رأس المال لدي أو ما تبقى منه، وخلال لقائنا مع بعض المسؤولين قالوا لنا صراحةً أن الدولة بحاجة إلى أموالنا نحن كـ تُجار ورجال أعمال، وأنه ينبغي علينا تقديم كل ما يلزم لمنع الاقتصاد من الانهيار، ومع ذلك قلنا لهم نحن مستعدون لذلك، لكن حبذا لو يتم دعمنا بالمحروقات وبأسعار مخفّضة، وحبذا لو تُصدّرون قرارات اقتصادية تناسب واقعنا، وحبذا لو تضعون حدّاً لعمليات “التشليح والتشبيح” التي تمارسها الحواجز العسكرية بحق بضائعنا وقوافلنا، ويختم رجل الأعمال أحمد، الضغوط الاقتصادية والقانونية زادت علينا وتلاحقنا منذ سنوات ولا حلّ إلا بإيقاف أعمالنا أو الاستثمار خارج سوريا.
شاهد/ي: “داعش”.. المعضلة التي لم تنتهِ بعد
ورغم حالة الاستقرار العسكري في غالبية مناطق سيطرة السلطة، إلا أن الأزمات المعيشية تكبر يوماً بعد يوم، فـ القدرة الشرائية للسوريين باتت معدومة جراء الهوّة الكبيرة بين الدخل والأسعار، فالأداء الإداري الهزيل من السلطة في مناطق سيطرتها، والمراسيم التشريعية التي أدت إلى قوننة الفساد والمساهمة في تعويمه ونشر الفساد ومصادرة أملاك السوريين، كل ذلك أرهق السوريين في مناطق سيطرة السلطة، ولم يعد بالإمكان تأمين القوت اليومي.
أسباب ومحددات الانهيار الاقتصادي في سوريا
من أهم أسباب تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية للسوريين في مناطق سيطرة السلطة، هو منعُ السلطة تداول أي عملة غير سورية إلا من خلال السلطة نفسها، فقد أدت هذه السياسة إلى حرمان السوريين من تحويلات مالية كبيرة من أقربائهم السوريين العاملين خارج البلاد، والراغبين بالتحويل لهم، التحويل فقط عبر مراكز الصرافة التابعة للسلطة، وبفرق سعري يتجاوز 3000 ليرة سورية لكل دولار، فضلاً عن ذلك، فإن حلفاء السلطة؛ روسيا وإيران خاضعتان لعقوبات اقتصادية، ويخوضان معارك خارج حدودهما، وطهران وموسكو مثقّلتان بالعقوبات، لذلك لا يمكن لحلفاء السلطة دعمها بالمال الكافي ولا حتى بالغذاء والوقود، والأهم أن إيران لم تعد مستعدة لتمويل السلطة، بل تسعى إيران إلى الضغط عليها لتسديد الديون المالية الكبيرة المتراكمة عليه.
وفي جانب أخر، فإن روسيا وإيران استحوذتا على كل الأصول السيادية السورية، ولم تعد تملك السلطة أي أصل سيادي في سوريا، فالمرافئ السورية كلها بيد روسيا، والمعامل الإنتاجية بيد إيران، ولا يتم تمرير الأموال إلا إلى السلطة لابقائها على قيد الحُكم.
ختاماً، الاقتصاد السوري في عام 2024 سيبقى بلا رؤى، وستبقى أزمات السوريين في تفاقمٍ مستمر، وعليه فإن بقاء السلطة بهذا النهج وهذه العقلية التي تستأثر بمفاصل الحلول السياسية، فإن السوريين في عام 2024 لن ينعموا بما يُمكنهم من تحسين واقعهم المعيشي والاقتصادي، ولا ننكر بأن الأسباب السياسية في الأزمة الاقتصادية حاضرة وبقوة، لكن السلطة وحلفاءها هم جوهر المشكلة، لكنهم أيضاً جزء من الحل، ولا بد من تطبيق القرارات الدولية المتعلقة بالملف السوري وعلى رأس ذلك القرار 2254.
عمار المعتوق-دمشق