رغم أزماتهم المستمرة والعصيّة على الحل، لم يكن ينقص السوريين سوى المرسوم الذي أصدره رأس السلطة، بتحديد موعد انتخاب أعضاء ما يسمى بـ”مجلس الشعب” المعروف لدى السوريين بـ”مجلس التصفيق والدُمى” للدور التشريعي الرابع، بتاريخ 15 تموز/يوليو 2024. جاء المرسوم ضمن مسرحية هزلية تكررها السلطة بطريقة مملة منذ عقود، لتُظهر نفسها بأنها لا تزال ممسكة بالمظاهر الدستورية للدولة، وما يُمثله مجلس الشعب من سلطة تشريعية. لكنها في الوقت ذاته تتجاهل قرارات مجلس الأمن الدولي حيال سوريا، وعلى رأسها القرار 2254، الذي يدعو إلى حل سياسي وهيئة حكم انتقالية، مسؤولة عن إجراء مثل هذه الانتخابات.
تسعى السلطة لاستعادة ثقة السوريين، لا سيما بعد التعديلات “الواهية” التي طالت حزب “البعث”، والذي لا يزال وفق غالبية السوريين يسيطر على مفاصل الدولة ولا يزال ضمن هذا الإطار قائداً للدولة والمجتمع. فالمادة الثامنة لم تسقط ولا تزال فاعلة ومؤثرة في عموم حياة السوريين.
إذاً، تسعى السلطة من خلال انتخابات “مجلس الشعب”، إلى تكريس صورتها في ذهنية السوريين على أنها لا تزال ممسكة بخيوط الدولة، خاصة بعد التعديلات التي شهدها حزب “البعث”، والتي قيل عنها وسُّوق لها على أنها بداية جديدة في المشهد السوري. إلا أن كل ذلك لم يكن سوى ما يمكن تسميته رقصة الموت، فالسلطة تدرك بأنها باتت خارج أي سياق سياسي، كما أن كل المبادرات والمسارات السياسية انتهت فعلياً واصطدمت بجزئيتي رفض السلطة تطبيق القرار 2254، والرفض الإيراني لأي حل سياسي في سوريا ينهي حقبة السلطة. والواقع أن ما تحاول السلطة ترويجه أو تكريسه في حياة السوريين، لا يعدو عن كونه دوراً تجميلياً، يحاول ترميم صورة السلطة المشوّهة داخلياً وخارجياً.
اقرأ/ي أيضاً: السويداء من الجنوب إلى الشمال والمصير واحد
وبالتالي فإن الدور التجميلي الذي تحاول السلطة فرضه على السوريين، يأتي دائماً في إطار المسرحيات السياسية التي خبرها السوريون جيداً، لا سيما أن غالبية السوريين يدركون ويعرفون الطريقة التي يتم فيها اختيار أعضاء “مجلس الشعب”، ويدركون أيضاً أن أعضاء المجلس ليسوا سوى دُمى وواجهة للسلطة وحزبها، وباقي الأعضاء المستقلين كُمّمت أفواههم. وضمن ذلك فإن كل أعضاء المجلس وعلى اعتبار أنهم ممثلو السلطة، فهم يبحثون غير آبهين بمعاناة السوريين، عن وسيلة للتمايز وإظهار الأهمية والقرب من السلطة وأجهزتها الأمنية بما ينعكس على مزيد من النفوذ الذي يمكن استخدامه داخل القطاعات التي ينتمي إليها الأعضاء. وينطبق هذا الأمر على الأعضاء من رجال الأعمال والفنانين والصحافيين والرياضيين ورجال الدين الذين تتم تزكيتهم لعضوية المجلس.
مجلس منزوع الصلاحية
أحد أعضاء “مجلس الشعب” السابقين رفض الكشف عن إسمه، أكد لنا، أن دور “مجلس الشعب”، لا يعدو عن كونه دوراً تجميلياً للسلطة على الصعيد الخارجي فقط، بمعنى يُسمح لهذا المجلس وبعض أعضاءه بالحديث عن الديمقراطية الشعبية، لكنها ديمقراطية وضعتها السلطة في غياهب السجون، وفي ذات الإطار يسمح لأعضاء “مجلس الشعب” بالحضور في المؤتمرات الدولية ذات الصلة بالبرلمانات.
يُضيف العضو السابق، أما على المستوى الداخلي فإن “مجلس الشعب” ليس إلا دمية، إضافة إلى أنه أداة للحصول على الحصص والمكافآت داخل مختلف قطاعات ومؤسسات الدولة، لكن تحول “مجلس الشعب” في سنين الأزمة، إلى أداة لـ تلميع وتبييض صفحة قادة الميليشيات التي أوغلت في دماء السوريين.
وتعقيباً على الفكرة السابقة، أكد لنا وليد الشامي “أسم مستعار” كان يعمل كـ مندوب لأحد المرشحين للانتخابات في الدورة الماضية، قائلاً: كنت مندوباً لأحد المرشحين، والذي كان قائد مليشيا يعمل لصالح السلطة في ريف دمشق، وجمع أموال كثيرة من التهريب وعمليات الخطف وبيع المخدرات والأسلحة، لكن في سوريا فقط، فإن هؤلاء الأشخاص لهم حظوة لدى السلطة، والمفارقة الأكبر بأنه نجح في الانتخابات.
يتابع وليد، “مجلس الشعب” وفق ما سبق تحوّل إلى أداة لتأهيل الشخصيات الموالية للسلطة، وتحويلها إلى زعامات محلية قادرة على التأثير في قطاعاتها أو محيطها الاجتماعي، حتى باتت تلك الشخصيات واجهة للسلطة تضرب بسيفها، لكن في المقابل تقوم بالأعمال القذرة من تهريب المخدرات وغيرها من الأعمال، لكن دون بصمة السلطة، وكلنا نعلم بأن الانتخابات التي جرت عام 2020، لم تكن سوى مسرحية هزلية، ولك أن تتخيل بأن بعض الصناديق لم تمتلئ سوى ببعض الأوراق، لكن تم تبديل الصناديق وأخذها إلى اللجنة الرئيسية لمراقبة الانتخابات ممتلئة بالأوراق الانتخابية لصالح بعض المقربين من السلطة، وهذا يؤكد بما لا يدعُ مجالاً للشك بأن السوريين في الانتخابات الماضية لم يشاركوا، والمشاركات كالعادة اقتصرت على الموظفين في دوائر ومؤسسات الدولة، وطلاب الجامعات، حيث تم إجبارهم على الاقتراع.
ربطاً بما سبق، فقد أكد العديد من السوريين لا سيما الموظفين وطلاب الجامعات، أنه ومنذ بداية الانتخابات تم نقلهم إلى المراكز الانتخابية، والإدلاء بأصواتهم، وأخذ الصور بغية تسويق مشهد انتخابي وهمي، والأهم بحسب ما أكده الكثيرون، بأنه لا يوجد غرفة سرّية تضمن سرّية الاقتراع، بل ثمة أوراق جاهزة بأسماء ما يُسمى قائمة الوحدة الوطنية، وكل ما يحدث تسجيل مفصل للهويات وفقط.
مجلس الشعب بلا شرعية
في الانتخابات الحالية، لا شي جديد، ويكاد يكون المشهد مطابق تماماً لـ مشهد الانتخابات “البرلمانية” التي جرت عام 2020، لكن ما يميز الانتخابات الحالية هو دخول المال السياسي في خضم الانتخابات، إذ بات واضحاً أن الطريقة التي تتم بها عبر التزكية وعمليات الاستئناس الحزبي، لا تحوي أي مناخ ديمقراطي، والأهم أن غالبية السوريين لا يقومون بعمليات الاقتراع لاقتناعهم بأن أسماء أعضاء “مجلس الشعب” تم وضعها مسبقاً، وبالتالي كل ما يجري عبارة عن مسرحية هزلية، وبهذا فإن “مجلس الشعب” يُعد قانونياً ودستورياً فاقداً للشرعية، لكن السلطة تريد تجميل نفسها من خلال انتخابات “مجلس الشعب” والأعراس الديمقراطية، وهي بهذا تقوم بدور شكلي يمنحها الشرعية القانونية لإسباغ مشهد دولة المؤسسات، ولتكريس سلطتها في تمرير القوانين والقرارات التي تناسبها، فضلاً عن التشريعات التي تُمرر لـ “مجلس الشعب” للقول بأن في سوريا حياة سياسية ومؤسسات فاعلة، لكن كل ذلك مدعاة للسخرية والضحك لدى السوريين.
المحامي محمد ش 47 يقطن في دمشق، أكد أن السلطة وحزب “البعث”، قاموا بتسخيف الحياة السياسية والدستورية في سوريا، وكلنا نذكر كيف تم تقزيم الدستور تفصيله على مقاس الرئيس الحالي، عندما تم تغيير الدستور بعد وفاة والده الرئيس السابق، ونسف مادة دستورية صريحة تحدد سنّ رئيس الجمهورية، وكل ذلك تم خلال دقائق وعلى مرأى ومسمع وبموافقة أعضاء “مجلس الشعب” حينها، وهذا ما يؤكد بأن هذا المجلس ومنذ عقود هو أداة بيد السلطة ولغايات السلطة ولسياسات السلطة، وعليه فإن هذا المجلس ومنذ عقود فاقد للشرعية ولا يمثل سوى السلطة، فالشعب السوري أساساً لم يقم بانتخاب أعضاء “مجلس الشعب” منذ تولي حزب البعث السلطة.
اقرأ/ي أيضاً: في قمة البحرين.. السلطة والقرار 2254
الناشط السياسي ح م 44 عام مقيم في دمشق، أكد أن غاية السلطة من انتخابات “مجلس الشعب”، لا تعدو عن كونها محاولة سخيفة للقول بأنها لا تزال قادرة على تنفيذ الاستحقاقات السياسية وفق الدستور، وفي المقابل فإن السلطة ومن خلال إجراء الانتخابات البرلمانية والتغطيات الإعلامية المواكبة لهذه المسرحية، تؤكد بأن السلطة لا تزال تنظر إلى السوريين نظرة استخفاف، كما أن الخطاب السياسي والإعلامي لـ السلطة لم يتغير، وهذا أيضاً ما يؤكد بأن السلطة تحاول تعويم نفسها بشتى الوسائل، ولا تزال تتصرف كما لو أنها الجهة التي تُسيطر على سوريا فعلاً، سواء أكانت هذه السيطرة على الأرض، أو على القرار في دمشق، والذي أصبح موزعاً بين روسيا وإيران، ولم يعد للسلطة سوى هوامش في داخله.
وبالعودة إلى المحامي محمد ش، فقد أكد بأن هذه المسرحية وكل فصولها، تحمل فائدة لحلفاء السلطة، بمعنى أن روسيا وإيران يرون أن “مجلس الشعب” يُمثل إغراءً لمعارضي السلطة أولاً، ورسالة للخارج بأن هناك حياة سياسية وانتخابات ديمقراطية و”مجلس شعب” منتخب ديمقراطياً. ترجمة ذلك فإن روسيا وإيران دائما ما تقومان وبشكل مكثف من استخدام مجلس الشعب بصورته الواهية، في كل الحوارات والمسارات السياسية سواء مع معارضي السلطة أو الدول التي قطعت علاقاتها مع السلطة.
داخلياً وخارجياً لا تعويل على “مجلس الشعب”
ضمن ما سبق فقد بات واضحاً أن غالبية السوريين لا يعولون على “مجلس الشعب” في أي سياق، خاصة أن هذا المجلس لم يقدم للسوريين أي حل لأزماته، وفي ما يتعلق بما يسمى بـ جلسات استجواب الحكومة أو الوزراء، هي مسرحية كوميدية تُضحك السوريين، ورغم ملفات الفساد التي ترتبط ببعض المسؤولين والوزراء ومن في دائرتهم، والتي يدرك تفاصيلها كل السوريين، إلا أن “مجلس الشعب” كـ ممثل للشعب لم يستطع إدانة أي مسؤول أو وزير أو حكومة، فالقرار ليس بيد الأعضاء الذين باتوا كالدمى، وهذا ما يؤكد بأن “مجلس الشعب” لم ولن يحقق غايات السوريين.
نتيجة لذلك، فإن التعويل الداخلي على إمكانية “مجلس الشعب” تحقيق أي هدف يُرضي السوريين تكاد تكون مستحيلة، وبذات السياق فإن التعويل الدولي على إجراء انتخابات “مجلس الشعب” كـ مدخل للتغيرات في سوريا، أيضاً مستحيلة، فحين يقوم حزب “البعث” والأجهزة الأمنية بتعيين أعضاء المجلس، وإجراء انتخابات شكلية، والافتقار إلى أدنى مقومات النزاهة والشفافية، فإن ذلك يُفقد الحديث عن الانتخابات بمفهومها العام أي معنى، وقبل الحديث عن ذلك، لابد من نسف العقلية الإقصائية للسلطة ولأجهزتها الأمنية، وإصلاح القضاء مضموناً لا شكلاً، وبين هذا وذاك، يبقى حزب “البعث” هو القائد الفعلي للدولة والمجتمع، وسيبقى “مجلس الشعب” في شكله الحالي، وأي تغيير يقتضي تغير مباشر للسلطة عبر القرار 2254.
فعلياً، لم تشهد سوريا أي حياة برلمانية حقيقية منذ الانقلاب العسكري الذي قاده حزب “البعث” في آذار 1963، والذي أنهى الحياة السياسية برمّتها في البلاد، والذي فرض بعد ذلك ما يسمّى بـ”مجلس الشعب” وفق دستور وضعه عام 1973 وكُرس من خلاله “البعث قائداً للدولة والمجتمع”. ومنذ ذاك الحين هيمن هذا الحزب على المجلس، الذي لم يكن له أي دور سياسي أو تشريعي حقيقي، لا سيما أن غالبية أعضائه ينتمون إلى “البعث” وإلى أحزاب تدور في فلكه في ما يُعرف بـ”الجبهة الوطنية التقدمية” التي أسسها السلطة في سبعينيات القرن الماضي.
عمار المعتوق- دمشق