شهدت مدينة بنش في ريف إدلب الشرقي أحداثاً متسارعة خلال الأيام الماضية، كشفت عن حالة احتقان متصاعدة بين الأهالي و”هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً). بدأت الأحداث باحتجاجات سلمية ضد ممارسات “الهيئة”، لتتطور إلى مواجهات مباشرة بعد حادثة دهس متظاهرة أثارت غضباً شعبياً واسعاً. هذه الأحداث ليست معزولة، بل تأتي في سياق توترات متراكمة بين السكان المحليين وسلطة الهيئة في مناطق سيطرتها بشمال غرب سوريا.
منذ سيطرتها على معظم محافظة إدلب وأجزاء من ريف حلب الغربي في عام 2019، سعت “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) إلى ترسيخ حكمها من خلال مزيج من السياسات الأمنية الصارمة والمحاولات المحدودة لتقديم خدمات مدنية. ومع ذلك، فإن ممارساتها، خاصة في مجال الاعتقالات والتضييق على الحريات، أدت إلى تنامي الاستياء الشعبي. وقد شكَّلَت مدينة بنش، المعروفة بتاريخها الثوري، بؤرة مهمة للاحتجاجات المناهضة لسياسات “الهيئة”.
جذور الاحتجاجات.. مطالب شعبية وقمع أمني
تعود بداية التوترات الأخيرة في بنش إلى قبل أكثر من 10 أيام، حين خرجت مظاهرة عقب صلاة الجمعة تطالب بإسقاط زعيم “تحرير الشام” أبو محمد الجولاني وإطلاق سراح المعتقلين. هذه المطالب لم تكن جديدة، بل هي امتداد لاحتجاجات متقطعة شهدتها المنطقة على مدى أشهر. ردت “الهيئة” باعتقالات طالت نشطاء ومنظمي الاحتجاجات، مما أدى إلى تصاعد الغضب الشعبي.
اقرأ/ي أيضاً: انتخابات مجلس الشعب.. لامبالاة شعبية تمتد للساحل السوري
يقول أحمد (اسم مستعار)، أحد سكان بنش: “لقد سئِمنا من القمع والاعتقالات التعسفية. خرجنا للمطالبة بحقوقنا بشكل سلمي، لكن الهيئة قابلت ذلك بمزيد من العنف والترهيب. يبدو أنهم لا يتعلمون من أخطاء النظام الذي ثُرْنا ضده.”
وتضيف سارة، ناشطة محلية: “المطالب بسيطة: نريد العيش بكرامة، نريد حرية التعبير، نريد محاسبة الفاسدين. لكن يبدو أن هذه المطالب تهدد سلطة الهيئة التي تدَّعِي أنها تحمي الثورة.”
تصعيد المواجهة بعد عملية دهس متظاهرة
شكَّلَت حادثة دهس فتاة متظاهرة نقطة تحول في الأحداث. الفتاة التي خرجت للمطالبة بالإفراج عن والدها المعتقل منذ نحو 15 يوماً لدى جهاز الأمن العام التابع “للهيئة” بتهمة المشاركة في التظاهرات السابقة، دَهَسَتها سيارة تابعة لأمن “الهيئة: يقودها عنصر أمني تابع للهيئة، يدعى بلال حج هاشم والملقب بـ “أبو تيسير”، نحو مجموعة المتظاهرات. خرج الآلاف في مظاهرات حاشدة نددت بالحادثة وطالبت بمحاسبة المسؤولين. هذه الحادثة أجَّجَت مشاعر الغضب الكامنة وحوَّلَت الاحتجاجات من مطالب محددة إلى تحدٍّ مباشر لسلطة “الهيئة”.
تروي فاطمة، إحدى شاهدات العيان: “كنا نقف بشكل سلمي نطالب بالإفراج عن المعتقلين، فجأة اندفعت سيارة نحونا ودهست إحدى الفتيات. كان المشهد مروعاً وأشعل غضب الجميع. في تلك اللحظة، شعرنا أن كل الخطوط الحمراء قد تم تجاوزها.”
وأضاف خالد، أحد المشاركين في الاحتجاجات: “لقد تحمّلنا الكثير على مدى السنوات الماضية، لكن استهداف النساء المتظاهرات بهذه الطريقة الوحشية كان أكثر مما يمكن تحمّله. أظهر هذا الحادث الوجه الحقيقي للهيئة وقيادتها.”
محاولات احتواء الأزمة
في محاولة لاحتواء الموقف، أعلنت “إدارة المنطقة الوسطى” التابعة “للهيئة” عن التوصل لاتفاق مع ممثلي الحراك في بنش. تضمن الاتفاق الإفراج عن الموقوفين وسحب القوى الأمنية من المدينة، مقابل تعليق الاحتجاجات لمدة ثلاثة أشهر. هذا الاتفاق يعكس محاولة “الهيئة” لكسب الوقت وتهدئة الأوضاع دون تقديم تنازلات جوهرية.
يعلق محمد، أحد الناشطين المحليين: “الاتفاق خطوة في الاتجاه الصحيح، لكننا نخشى أن يكون مجرد محاولة لامتصاص الغضب دون معالجة جذور المشكلة. سنراقب التنفيذ عن كثب. التجارب السابقة علمتنا أن نكون حذرين في التعامل مع وعود الهيئة.”
ويضيف أبو منذر، أحد وجهاء المدينة: “نحن نسعى للسلام والاستقرار، لكن ليس على حساب حقوقنا وكرامتنا. الاتفاق يمنحنا فرصة لالتقاط الأنفاس، لكنه لا يحلّ المشاكل الأساسية. نحتاج إلى إصلاحات حقيقية في طريقة إدارة المنطقة.”
“الهيئة” تمثل تهديداً للتعايش السلمي والتنوع في المجتمع السوري
الأحداث الأخيرة في بنش تضع “هيئة تحرير الشام” أمام تحديات جدّية تتعلق بشرعيتها وقدرتها على الحكم. فمن جهة، تحاول “الهيئة” تقديم نفسها كقوة مستقرة قادرة على إدارة المناطق الخاضعة لسيطرتها، وتسعى للحصول على اعتراف دولي أو على الأقل تقبُّل إقليمي. ومن جهة أخرى، تواجه معارضة شعبية متزايدة بسبب ممارساتها القمعية وفشلها في تلبية احتياجات السكان الأساسية.
اقرأ/ي أيضاً: بنش.. من مظاهرات سلمية إلى مواجهة واستنفار عسكري
يقول جميل (45 عاماً) ناشط ميداني من إدلب: “هذا الوضع يضع الهيئة في موقف صعب يشبه المأزق. فاستمرارها في نهج القمع قد يؤدي إلى توسع دائرة الاحتجاجات وفقدان ما تبقى من دعم شعبي، مما قد يزعزع استقرار حكمها. وفي المقابل، فإن تقديم تنازلات كبيرة قد يُظهرها بمظهر الضعيف أمام معارضيها، مما قد يشجع على مزيد من التحدي لسلطتها.”
محاولات “الهيئة: للموازنة بين القمع والاحتواء، كما يظهر في الاتفاق الأخير مع ممثلي الحراك في بنش، قد تكون غير كافية لتهدئة الغضب الشعبي على المدى الطويل.
وتضيف نجلاء (50 عاماُ)، ناشطة ومشاركة في المظاهرات: “تُعتبر ممارسات هيئة تحرير الشام استمراراً لنهج سلطوي يتعارض مع مبادئ الحرية والديمقراطية التي نادت بها الثورة السورية. فالهيئة تحاول فرض نموذج حكم أحادي يقمع التعددية السياسية والفكرية، ويعتمد على القوة الأمنية لفرض سيطرته.”
كما أن محاولات “الهيئة” لتحسين صورتها دولياً تُعتبر مجرد مناورة سياسية لا تعكس تغييراً حقيقياً في جوهر ممارساتها وأيديولوجيتها. “فالهيئة” لا تزال تمثل تهديداً للتعايش السلمي والتنوع في المجتمع السوري، وتشكل عقبة أمام أي حلٍّ سياسي شامل للأزمة السورية.
في ضوء هذا الواقع، تواجه “هيئة تحرير الشام” معضلة حقيقية ذات أبعاد خطيرة. فمن جانب، تعتمد على قبضتها الأمنية المُحكمة لضمان استمرارها في السلطة، وهو نهج يعزز سيطرتها على المدى القصير. ومن جانب آخر، تحتاج بشدة إلى توسيع قاعدة شرعيتها الشعبية لترسيخ حكمها على المدى الطويل.
الأحداث الأخيرة، وخاصة الاحتجاجات في بنش وغيرها من المناطق، تكشف بوضوح عن فشل “الهيئة” في تحقيق هذا التوازن الدقيق والحرج. فنهجها القمعي يزيد من نفور السكان المحليين، بينما محاولاتها لتقديم تنازلات محدودة تبدو غير كافية لاسترضاء الغضب الشعبي المتصاعد.
هذا الوضع يضع “الهيئة” أمام خيارات صعبة، حيث إن الاستمرار في نهجها الحالي قد يؤدي إلى مزيد من التآكل في شرعيتها وقد يهدد استقرار حكمها على المدى البعيد، في حين أن تقديم تنازلات جوهرية قد يُضعف قبضتها على السلطة ويفتح الباب أمام تحديات جديدة لحكمها.
بلال الأحمد – إدلب