ثورة 19 تموز التي انطلقت شرارتها من مدينة كوباني عام 2012 حقّقت على مدار 12 سنة، انتصارات كبيرة، واستطاعت القضاء على تنظيم “داعش” الذي شكل خطراً على العالم أجمع، كما حقّقت قفزات نوعية في السير بالمجتمع نحو الدمقرطة وتأسيس نظام ديمقراطي استطاع الحفاظ على مناطق شمال وشرق سوريا من الدمار والخراب مقارنة مع غيرها من المناطق السورية ليُثبت أن الاعتراف بالأخر وتقبّله وضمان حقوقه هو الأساس في الوصول إلى حلٍّ للأزمة السورية ودونه لن يكون هناك حل.
نتيجة الظلم والقمع الذي عاشته الشعوب، انطلقت في المنطقة أواخر عام 2010 ثورات الشعوب بدءً من تونس، مروراً بليبيا ومصر، وصولاً إلى سوريا التي اندلعت فيها الثورة في 15 آذار/مارس 2011 انطلاقاً من درعا، ولكن سرعان ما انحرفت الثورة عن مسارها وجرى عسكرتها، وتحوّلت إلى صراع مسلح بين حكومة متمسكة بالسلطة ومجموعات مسلحة ساعية للسلطة.
وبعد تسارع وتيرة الأحداث، طرأ تغيير مهم في سوريا، ففي 18 تموز/ يوليو 2012، قُتل عدد من قيادات قوات السلطة في دمشق والذين كانوا أعضاء ما يسمون “خلية الأزمة” التي تدير الأوضاع في سوريا، الأمر الذي دفع جميع أنصار السلطة للاعتقاد بأنها ستُسقط خلال أيام، وبدأت المعارضة المسلحة بتكثيف هجماتها على المناطق الريفية البعيدة عن سيطرة السلطة في مراكز المحافظات.
وفي ليلة 18 تموز/ يوليو 2012، سيطرت فصائل الجيش الحر على مدينتي جرابلس ومنبج المجاورتين لمدينة كوباني غرباً من أيدي السلطة في دمشق، الأمر الذي دفع أهالي مناطق روج آفا للتحرك مباشرة من أجل حماية أنفسهم ومناطقهم، وكانت البداية من كوباني عبر طرد سلطات دمشق منها وبالتالي انتشرت شرارة ثورة 19 تموز إلى بقية مدن روج آفا، وفي ذات اليوم 19 تموز، أعلنت القيادة العامة لوحدات حماية الشعب رسمياً عن وحداتها.
اقرأ/ي أيضاً: حادثة الدهس تشعل إدلب.. تحدٍّ جديد لسلطة “هيئة تحرير الشام”
تحرير الشعب الكردي لمدنه من قوات السلطة في دمشق لم يرق للأطراف المعادية للشعب الكردي من السلطة في دمشق والدولة التركية والمجموعات المسلحة التي كانت تدربها على أراضيها، فبدأت المنطقة تتعرض للهجمات الواحدة تلو الأخرى، وعندما فشلت هجمات ما كان يسمى بالجيش الحر تم إرسال تنظيم “داعش” إلى المنطقة.
في تلك الأثناء، كانت قد تشكّلت في المنطقة عدد من القوات العسكرية مثل وحدات حماية المرأة كقوة عسكرية خاصة بالمرأة، قوات الصناديد بقيادة عشيرة الشمّر العربية، والمجلس العسكري السرياني الذي ضمّ السريان الآشور الكلدان وقوات أخرى، اجتمعت جميعها تحت سقف قوات سوريا الديمقراطية في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2015 وقادت هذه القوات معارك تحرير المنطقة من تنظيم “داعش” على مدار أعوام حتى استطاعت القضاء عليه جغرافياً في آذار/مارس عام 2019 في آخر معاقله بمدينة الباغوز على الحدود السورية العراقية.
إلى جانب القوات العسكرية، تشكلت قوات أمنية في المنطقة تولت مهمة الحفاظ على الأمن داخل المدن والبلدات والنواحي، مثل قوى الأمن الداخلي “الأسايش” التي تأسست في 24 تموز/ يوليو عام 2012. وفي عام 2014 تشكلت قوات خاصة بحماية الأسواق. وفي عام 2015 تشكلت قوات الحماية الجوهرية، وإلى جانب هذه القوات تشكلت قوات السوتورو وقوات الدفاع الذاتي بعد الإعلان عن الإدارة الذاتية.
بعد أن شملت الثورة كافة مدن وبلدات روج آفا، سارع أبناء المنطقة إلى تنظيم أنفسهم في مؤسسات مدنية وخدمية لتأمين خدماتهم الأساسية، وبدأ التنظيم بتشكديل الكومينات والمجالس المحلية وافتتاح المدارس والمراكز التعليمية الأخرى والمشافي والمراكز الطبية وصولاً إلى الجمعيات التعاونية.
ومع تحرر مناطق جديدة من قبضة تنظيم “داعش” كان لا بدّ من وجود هيكلية مؤسساتية جامعة بين كل المناطق لتستطيع إدارتها من النواحي الاجتماعية والسياسية والأمنية، لذلك بدأت في نهاية عام 2013 خطو الخطوات نحو تشكيل إدارة ذاتية مشتركة بين كافة المكونات، وفي 21 كانون الثاني عام 2014 تم إعلان الإدارة الذاتية في مقاطعة الجزيرة وفي 27 كانون الثاني/ يناير، في كوباني وفي 29 كانون الثاني/ يناير في عفرين، ولاحقاً عندما تحررت منبج عام 2016، الطبقة والرقة عام 2017، ودير الزور، تشكلت إدارات مدنية فيها.
وبذلك باتت مناطق شمال وشرق سوريا تُدار عبر 7 إدارات ذاتية ومدنية، ومن أجل ضمان إدارة المنطقة بشكل أكثر فاعلية، اجتمعت هذه الإدارات في 6 أيلول/سبتمبر عام 2018 تحت سقف الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، واتخذت من مجلس سوريا الديمقراطية مظلة سياسية لها.
ورغم جميع الهجمات التي تعرضت لها والصعوبات والحصار المفروض عليها، استطاعت الثورة الحفاظ على ما حققته من مكتسبات، وأن تعطي نموذجاً إيجابياً لكل السوريين بفضل النظام الإداري الذي يخدم المنطقة على مختلف الصُّعد ويضمن الديمقراطية ويصون حقوق الجميع ويمثل فئات المجتمع المختلفة ولا سيما “المرأة والشبيبة” الذين كانوا مغيبين عن إدارة المجتمع السوري.
إن ثورة 19 تموز/ يوليو استطاعت تغيير الذهنية المفروضة على المجتمع وعكسها بشكل تام، حيث بات المجتمع قادراً على إدارة نفسه على مختلف الصُّعد وحماية نفسه ووجوده وحقوقه بوجه كافة المعتدين بفضل النظام الدفاعي الذي تشكّل في المنطقة اعتماداً على مبادئ الدفاع المشروع، وبات مثالاً يُحتذى به في العالم، لأن هذا النظام وقف بوجه “داعش” وهزمه في وقتٍ كانت الدول تعجر عن مجابهته.
تقرأ/ي أيضاً: انتخابات مجلس الشعب.. لامبالاة شعبية تمتد للساحل السوري
ومن الناحية الإدارية، أثبتت الثورة أنه ليس من الضروري أن تكون دولة حتى تستطيع إدارة المجتمع، فالمجتمع المنظّم يستطيع تولي مهام الإدارة، وهذا ما يبدو جلياً في استمرار الإدارة الذاتية بإدارة المنطقة ومتابعة مسيرتها وهذا هو الفرق بين تجربة شمال وشرق سوريا عن باقي المناطق السورية التي يتواجد فيها مثالان للأنظمة الحاكمة أولها مناطق السلطة في دمشق والثانية المناطق المرتبطة بالاحتلال التركي التي تفتقد الديمقراطية والحرية وخلق الإرادة.
وبطبيعة الحال، فأن أي ثورة تتعرض للصعوبات والعراقيل التي تعيق طريق تطورها، وهذا حال ثورة 19 تموز/ يوليو التي واجهت خلال 12 عاماً الصعوبات والعراقيل التي حدت من تطورها وتمكينها من الوصول إلى ما كانت تصبو إليه سياسياً واجتماعياً وعسكرياً واقتصادياً.
ولعل أبرز هذه الصعوبات هي الذهنية، مثل ذهنية السلطة الحاكمة والعادات السيئة التي رسّخها في المجتمع وذهنية الرجل المتسلط تجاه المرأة، فالثورة تعني تغيير الذهنية وأي محاولة لتغيير الذهنية القائمة ستلاقي رفضاً من الكثير من الجهات ولذلك فالتغيير يحتاج إلى وقت طويل حتى تتحقق النتيجة من الثورة.
وأيضاً من الصعوبات، هو تعرّض المنطقة للحصار وللهجمات من قبل دول الجوار التي تريد إنهاء وجود الإدارة المتشكلة، وهنالك حربٌ نفسية وإعلامية، كما وتحاول دول إقليمية مجاورة فرض تأثيرها على المجتمع، ناهيك عن الإصرار على الاستمرار بذهنية وأيديولوجية الدولة في مواجهة النظام الديمقراطي، وهذه جميعاً معوّقات وصعوبات تواجه الثورة، فبعضها مفتعل من قبل السلطة في دمشق وبعضها الآخر من قبل تركيا وبعضها من قوى إقليمية ودولية.
كما أن هناك تحديات تواجه الثورة، مثل إعادة إعمار المناطق المتضررة من الحرب وتحسين جودة الخدمات، فضلاً عن وجود الآلاف من معتقلي تنظيم “داعش” في السجون وعشرات الآلاف من أفراد عائلاتهم في المخيمات والتي تتطلب وجود حلٍّ دائم لها، إلى جانب ملفات أخرى تتعلق بالمشاركة في العملية السياسية لتحديد مستقبل سوريا.
ورغم أن الثورة استطاعت أن تنجز الكثير حتى الآن إلا أن هناك أموراً لم تستطع إنجازها ولذلك نظراً لحداثة التجربة الجديدة التي تعيشها المنطقة.
تيم الحسن