بقلم: د. غياث نعيسة
لا جدال بأن الوضع السوري يبدو مليئاً بالانعطافات المفاجئة، لا سيما أنه مرتبط، بشكل معقد وهش، بعوامل داخلية وإقليمية ودولية تؤثر عليه بدرجات متفاوتة. فالنظام الحاكم في دمشق له حساباته الخاصة ودافعها الرئيس هو ديمومة بقائه في السلطة دون تنازلات تؤثر باستئثاره بها، ما يدخله أحياناً في تناقضات حادة مع حلفائه. في حين أن شمال غرب سوريا يقبع عسكرياً وسياسياً تحت السيطرة التركية. أما شمال شرق سوريا؛ فيشكل ساحة تتقاطع حولها مصالح وتتنافس عليها كل القوى الداخلية والخارجية المتورطة في سوريا.
هذا الوضع، علاوة على خصوصية المشروع السياسي، هو الذي يفسر الاستقلالية النسبية التي تحظى بها الإدارة الذاتية مقارنة بالمنطقتين السوريتين الأخريين. وما يزيد من هذه الاستقلالية النسبية طبيعة الإدارة الذاتية كمشروع ديمقراطي سوري حي وقائم على الأرض السورية نفسها وليس مجرد خطابات ومشاريع سياسية وهمية مصيرها الفشل لا مكان لها سوى في رغبات عدد من المعارضين الليبراليين الذين يقبع معظمهم في الشتات وبلدان اللجوء.
هكذا لأن مصير شمال غرب سوريا، عسكرياً وسياسياً، مرتبط تماماً بإرادة الاحتلال التركي. فلا يبقى داخلياً، إذن، سوى منطقتين مصيرهما سيحددان، إلى درجة كبيرة، ما سيكون عليه مستقبل سوريا. هما مناطق الإدارة الذاتية ومناطق نظام الطغمة.
لفهم التحديات الحالية، نحتاج إلى عودة إلى ذلك الوقت الذي تمدد فيه التنظيم الإرهابي والفاشي داعش على مناطق واسعة من العراق وسوريا في عام 2014 وما عناه ذلك عملياً من هزيمة الثورة السورية لعام 2011.
في مواجهة التوسع الكبير لتنظيم داعش شكلت معركة كوباني البطولية نقطة فارقة في مقاومته وكسر شوكته وشكلت السد البطولي أمام هذا التمدد الفاشي وبداية هزيمته. ولكن تمدد تنظيم داعش وما يشكله من خطر جسيم إقليمياً دفع بالقوى الدولية والإقليمية إلى إعادة تنظيم تنافسها على الأرض السورية فتدخلت الولايات المتحدة بتحالف دولي عسكرياً في نهاية عام 2014 وتدخلت روسيا عسكرياً في نهاية عام 2015.
اقرأ/ي أيضاً: المرأة في الطليعة.. مسيرة ثورة 19 تموز في شمال وشرق سوريا
كانت الثمرة السياسية التي نتجت عن تنظيم التنافس بين هذه القوى الإقليمية والدولية المتدخلة في سوريا هي إصدار مجلس الأمن لقراره الشهير 2254 في نهاية عام 2015. ولكن على صعيد التطبيق العملي لهذا القرار العتيد، من وجهة هذه القوى المذكورة، فقد تم دمج كتلة كبيرة من الائتلاف الذي اعترف به “المجتمع الدولي” كممثل للثورة والمعارضة مع ممثلين للمنصات وما يسمى منظمات مجتمع مدني (لا وجود حقيقي له) لتشكيل الهيئة العليا للتفاوض عام 2015 التي توسعت ليصبح اسمها هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة عام 2017 وتلاها تشكيل اللجنة الدستورية، بعد مؤتمر سوتشي عام 2018 من ممثلين عن كل من النظام والمعارضة المذكورة والذي حاز فيها الائتلاف على النصيب الأكبر لتعقد اجتماعها الأول في عام 2019، برعاية من دول إقليمية ودولية لأطرافها. بوصفهما تعبيراً عملياً لتطبيق هذا القرار الذي تصدح به ليلاً ونهاراً معظم المعارضات، رغم الخيبة والمرارة التي تعبر عنها تلك منها التي لم تجد مكاناً ومقعداً لها في مساره التطبيقي الجاري.
لا بد من القول في هذا الخصوص، أن هنالك مساحة هائلة تفصل بين متن القرارات الدولية وحقيقة تطبيقها عملياً، وأغلب القرارات الدولية لم تطبق. لأن تطبيقها وشكل تطبيقها يعتمدان حصراً على موازين القوى على الأرض. لذلك فإن رفع شعار القرار 2254 يعني واقعياً الاعتراف بمساره الراهن أي بهيئة التفاوض واللجنة الدستورية وبالائتلاف الوطني بوصفه الممثل “الوحيد” لقوى الثورة والمعارضة.
والحال، فإن جرى التوصل إلى تفاهم تركي مع النظام السوري، فإن ذلك سيشمل بدوره الائتلاف وهيئة التفاوض، وسيقدم الأمر، حينذاك، كتطبيق لأهم بنود هذا القرار الدولي الذي ينص على تشكيل حكومة انتقالية ذات صدقية وغير طائفية بين المعارضة والنظام؛ فالمسار الراهن لتطبيق القرار يتطابق مع هذه النتيجة، وبالأخص أن آليات التطبيق الجاري للقرار 2254 تتوافق حولها المصالح التركية والروسية والغربية والنظام.
هذا التفارق الواسع بين متن القرار وكيفية تطبيقه يتطلب منا تعاملاً مختلفاً عن مجرد ترديده بكل مناسبة. بل علينا، وبوضوح، رفض مسار تطبيقه العملي الراهن، والكف عن التطبيل له في كل البيانات والتصريحات، لأن فعل ذلك اليوم إنما يعني صب الماء في طاحونة مسار مناهض لمصالح الشعب السوري.
وفي الوقت عينه، طالما أن الحل السياسي يجب أن يكون بأيدٍ سورية، وهو ما يقر به متن هذا القرار نفسه، فإنه يقع على عاتقنا تقديم “الحل السياسي” البديل العملي والواقعي والمعبر عن مصالح السوريين واستقلالية إرادتهم.
من معوقات بناء طريق بديل، هو الوضع المزري للمعارضات، فقد ساهم القرار المذكور في زيادة تخبط العمل المعارض أكثر مما كان عليه قبله. فهو، من جهة، رفع من وتيرة محاولات المجموعات المعارضة التي تتبناه والمستبعدة من هيئة التفاوض والدستورية إلى تجميع نفسها – باءت جميعها هذه المحاولات بالفشل على مدى عقد من الزمان- متوهمة أنها بمجرد عقد مؤتمر “توحيدي” للمعارضة “الديمقراطية” فإنه سيتم دعوتها من الدول الفاعلة إلى المشاركة في هيئة التفاوض واللجنة الدستورية. وهذا ما لم يحصل ولن يحصل.
ومن جهة أخرى، أفسح تبني القرار 2254 مجالاً واسعاً للعديد من الشخصيات والمجموعات، وأغلبها من مخلفات الائتلاف وغيره من هياكل معارضة تلاشت وتفتتت، إلى الدعوات المحمومة لمؤتمرات “توحيدية”، دافعها الدفين هو محاولة إعادة تدوير ذاتها وتواجدها وتثقيل وزنها.
نجد تأثير هذا الوهم السياسي الذي عززه القرار 2254 حتى خارج التجمعات المعارضة المذكورة. فإن خروج الحراك في السويداء أو في الشمال تحت شعار تطبيق القرار 2254 إنما يشير إلى مدى التشوش السياسي الذي أصاب قطاعات من السوريين تجاهه. فالسوريون حين يدافعون عنه إنما يدافعون عن صورة القرار المثالية في أذهانهم، في حين أنهم في حراكهم إنما يحتجون فعلياً عليه كما يتم تطبيقه؛ دون أن يدركوا هذا التناقض داخلهم.
اقرأ/ي أيضاً: الحوار السوري.. ضرورة ملحة لمستقبلٍ مشترك
بناءً على ما سبق، يسير التطبيع المتباطئ بين النظامين التركي والسوري بخطى ثابتة، بخلاف ما يعتقد البعض، ولكل من النظامين مصالحه في إنجاز التطبيع. والتباطؤ الذي يعانيه التطبيع بين النظامين التركي والسوري مصدره الأساسي نظام الطغمة في دمشق الذي لا يرغب حالياً، في وضعه الاقتصادي والأمني الكارثي، تحمل أعباء استقبال ملايين اللاجئين؛ وبانتظار توفر الأموال اللازمة يترك هذا العبء على تركيا.
في حال استكمل هذا التطبيع ووصل إلى نهايته فإن مفاعيله ستكون “تطبيق” القرار 2254 كما هو جارٍ اليوم، أي على حساب عموم الشعب السوري، بإعادة إنتاج نظام الطغمة مع بعض الرتوش من المعارضة. وأيضاً عودة شمال غرب سوريا إلى “حضن” النظام، وتشديد الحصار والحرب على مناطق الإدارة الذاتية. ولا توجد معطيات تشير إلى أن هذا المسار التطبيعي قد يلقى عرقلة حقيقية من أي من دول الشرق أو الغرب.
هنالك، إذن، تحديات كبرى تواجه الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا؛ بوصفها مشروعاً تحررياً وديمقراطياً لعموم السوريين؛ وساحة ارتكاز لقواها الشعبية والديمقراطية.
أولها؛ أن الإدارة الذاتية هي التي طرحت الحوار السوري السوري منذ سنوات، لكن لم يستكمل هذا المسار ولم يصل إلى النتائج المرجوة؛ لأن المقاربات التنظيمية التقليدية لتجميع قوى سياسية ديمقراطية لم تفلح لأسباب موضوعية وذاتية.
ما نعتقد أن الوضع السوري الراهن يحتاجه هو الدعوة إلى تشكيل ما يشبه “البرلمان الشعبي” كما قام به السوريون في مطلع القرن الماضي مع تشكيل المجلس العام السوري. ورغم غياب شروط انتخابات له، لكن انتقاء حصيف لشخصيات وممثلين عن تجمعات سياسية واجتماعية تمثل كل التلوينات والحساسيات في سوريا اليوم. يتعامل بالقضايا الكبرى التي تعبر عن المصالح العامة للشعب السوري بكل مكوناته، واستناداً إلى جملة من المبادئ: تحقيق السلام وحل القضايا الإنسانية، إعادة توحيد البلاد؛ الانتقال الديمقراطي، بناء نظام ديمقراطي لامركزي، تحقيق الاستقلال الفعلي وخروج القوات المحتلة والأجنبية، وإقامة سياسات عدل اجتماعي.
ثانيها؛ أن الإدارة الذاتية في المرحلة الراهنة هي من القوة في وضع يسمح لها، استناداً إلى مبادرتها التي أطلقتها في نيسان من العام الماضي؛ أن تطلق علناً الدعوة إلى تفاوض مع نظام دمشق على الأسس المذكورة في البند الأول.
هكذا تفاوض سيجري باسم قطاعات واسعة من السوريين لتحقيق الأهداف المذكورة أعلاه؛ ولحماية المكتسبات، التي دفع ثمنها دماء غالية، وأولها الإدارة الذاتية كمكسب وطني وتطويرها؛ كما أنه سيقلل المخاطر ويفسح آفاقاً أوسع لمستقبل أفضل لسوريا وللشعب السوري؛ وينهي مأساته الحالية.
المستقبل يدوم طويلاً
غياث نعيسة