تعيش مدينة عفرين وريفها منذ عام 2018 تحت وطأة انتهاكات واسعة النطاق ضد سكانها الأصليين من الكرد، في ظاهرة أصبحت تهدد النسيج الاجتماعي والديمغرافي بأكمله. هذه الانتهاكات، التي تشمل عمليات خطف وقتل واغتصاب وتعذيب وتهجير قسري، تنفذها الفصائل المسلحة تحت إشراف القوات التركية، بهدف تغيير التركيبة السكانية للمنطقة وطمس هويتها الكردية. وتكاد لا تنتهي هذه الممارسات الوحشية ولا تقتصر على الأعمال العسكرية وجرائم القتل، بل تمتد لتشمل اختطاف المدنيين، وبخاصة النساء، واغتصابهن أو نقلهن إلى أقبية التحقيق، في انتهاك صارخ لكل القوانين والأعراف الدولية.
إن هذه الانتهاكات لا تستهدف فئة معينة من السكان فحسب، بل تطال جميع مكونات المجتمع في عفرين، من رجال ونساء وأطفال وشيوخ. وتهدف هذه السياسة الممنهجة إلى خلق حالة من الرعب والفوضى تدفع السكان الأصليين إلى مغادرة أراضيهم، مما يسهل عملية التغيير الديمغرافي التي تسعى إليها القوات المحتلة. ورغم أن النساء والفتيات يشكلن الفئة الأكثر استهدافًا وضعفًا في وجه هذه الانتهاكات، إلا أن الرجال والفتيان أيضًا لم يسلموا من بطش هذه الممارسات الإجرامية.
في هذا التقرير، سنسلط الضوء على حجم المأساة التي يعيشها السكان الكرد الأصليون في عفرين، مع التركيز بشكل خاص على الانتهاكات الموجهة ضد النساء، باعتبارهن الحلقة الأضعف والأكثر تأثرًا بهذه الممارسات. سنوثق شهادات الناجين والناجيات، ونستعرض الإحصاءات المروعة التي تكشف حجم الكارثة الإنسانية التي تتعرض لها المنطقة، في محاولة لتسليط الضوء على هذه القضية الخطيرة وحث المجتمع الدولي على التحرك العاجل لوقف هذه الانتهاكات وحماية السكان الأصليين في عفرين.
حجم الانتهاكات.. أرقام تكشف المأساة
تكشف الإحصائيات الصادرة عن منظمة حقوق الإنسان – عفرين عن حجم المأساة التي تعيشها نساء المنطقة. ففي الفترة بين عامي 2018 و2019، وثقت المنظمة 40 حالة قتل للنساء، و60 حالة اغتصاب معظمهن من القاصرات، مما دفع 5 منهن للانتحار هربًا من العار المجتمعي. كما تم توثيق اختطاف 270 امرأة خلال نفس الفترة.
اقرأ/ي أيضاً: ثورة 19 تموز خلقت الوجود من العدم
ولم يشهد الوضع أي تحسن في السنوات اللاحقة، بل استمرت وتيرة الانتهاكات في الارتفاع. ففي عام 2020 وحده، سجلت المنظمة 9 حالات قتل للنساء، و35 حالة اختطاف، و67 حالة اغتصاب، بعضهن من القاصرات. كما وثقت المنظمة 5 حالات زواج قسري لفتيات دون سن الثامنة عشرة على يد عناصر الفصائل الموالية لتركيا.
واستمر هذا النمط المروع في الأعوام التالية. ففي عام 2021، تم توثيق مقتل 14 امرأة، واختطاف 82 امرأة و25 قاصرة. وفي عام 2022، وثقت المنظمة مقتل 13 امرأة، واختطاف 49 سيدة بالإضافة إلى طفلة واحدة.
أما في عام 2023، فقد تم توثيق اختطاف 35 امرأة، واغتصاب فتاة قاصرة واحدة، ومقتل 4 سيدات، اثنتان منهن انتحرتا. وحتى نهاية الشهر السابع من عام 2024، وثقت المنظمة مقتل امرأتين، واختطاف 25 امرأة بينهن 5 قاصرات، إضافة إلى تعرض فتاة قاصرة للاغتصاب.
هذه الأرقام المروعة تكشف عن استمرار النهج الممنهج في استهداف النساء والفتيات في المنطقة، مما يشير إلى ضرورة التحرك العاجل لوقف هذه الانتهاكات وحماية السكان الأصليين في عفرين.
شهادات حية من جحيم الاعتقال
تروي الناجيات من معتقلات الفصائل المدعومة من تركيا قصصًا مروعة تكشف عن بشاعة ما يتعرضن له. فها هي صباح. م، البالغة من العمر 47 عامًا، من قرية قدا، تشهد قائلة: “تدهورت حالتي الصحية جراء التعذيب الوحشي والضرب المبرح الذي تعرضت له في المعتقل”. وتضيف أنها لم تنل حريتها إلا بعد سبعة عشر يومًا من الاعتقال، وذلك مقابل دفع فدية مالية كبيرة.
وتتنوع أساليب التعذيب التي تتعرض لها المعتقلات، فتشمل الصعق الكهربائي، وقلع الأظافر، ورش الماء البارد، إضافة إلى التعذيب النفسي الشديد. وقد كشفت السيدات اللواتي تم الالتقاء بهن عن وجود عدد كبير من النساء اللواتي ما زال مصيرهن مجهولًا، مشيرات إلى تعرضهن لأشكال مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي وغيره من ضروب المعاملة السيئة. كما أشرن إلى إخضاع العشرات منهن لمحاكمات عسكرية جائرة، في انتهاك صارخ لأبسط قواعد العدالة.
الاغتصاب والعنف الجنسي
تعد ظاهرة اغتصاب القاصرات من أخطر الانتهاكات الموثقة في عفرين. ومن الحوادث التي هزت المجتمع بأسره قصة الفتاة القاصر (ك.م) البالغة من العمر سبعة عشر عامًا في ناحية شيراوا بريف عفرين. فقد تعرضت هذه الفتاة للاختطاف والاغتصاب المتكرر على يد أحد عناصر فيلق الشام التابع للاحتلال التركي. وقد أثارت هذه الحادثة موجة من الغضب والاستنكار، حيث أدانها الدكتور أحمد خازم، رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان، معتبرًا إياها “جريمة ضد الإنسانية”.
ويبدو أن التحرش الجنسي والاغتصاب بحق النساء الرافضات للزواج من عناصر الفصائل المنتشرة في عفرين المدعومة من الاحتلال التركي، قد أصبح نمطًا ممنهجًا، يضرب بقسوة جدار السلام الاجتماعي في مجتمع يعظم قيم الشرف والعفة. وهذا النمط من الجرائم لا يقتصر أثره على الضحايا المباشرات فحسب، بل يمتد ليطال المجتمع بأسره، مهددًا بتفكيك نسيجه الاجتماعي.
التأثير على النسيج الاجتماعي
إن تأثير هذه الانتهاكات يمتد بعمق إلى قلب المجتمع في عفرين. فقد لوحظ ارتفاع ملحوظ في نسبة زواج القاصرات، وهو ما يفسره المراقبون بأنه محاولة من الأهالي لحماية بناتهم من خطر الاختطاف والاغتصاب على يد عناصر المجموعات المسلحة. وهذه الظاهرة، وإن كانت تهدف إلى الحماية، إلا أنها تشكل في حد ذاتها انتهاكًا لحقوق الفتيات وتحرمهن من فرص التعليم والنمو الطبيعي.
كما أدت هذه الممارسات الوحشية إلى تفكك النسيج الاجتماعي وتهديد السلم الأهلي في المنطقة. فقد دفعت الكثير من العائلات إلى اتخاذ قرار الهجرة القسرية، تاركة وراءها منازلها وأراضيها وذكرياتها، بحثًا عن الأمان في مناطق أخرى. وهذا النزوح الجماعي يهدد بتغيير التركيبة الديمغرافية للمنطقة، ويخلق تحديات إنسانية جديدة في المناطق المستقبلة للنازحين.
دعوات للتدخل العاجل
لم تمر هذه الانتهاكات الخطيرة دون أن تثير ردود فعل دولية وحقوقية غاضبة. فقد أصدرت منظمات حقوقية دولية مرموقة، على رأسها هيومن رايتس ووتش، بيانات إدانة شديدة اللهجة لهذه الممارسات. كما قامت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة بإصدار تقارير تفصيلية توثق حجم المأساة التي تعيشها نساء عفرين.
اقرأ/ي أيضاً: حادثة الدهس تشعل إدلب.. تحدٍّ جديد لسلطة “هيئة تحرير الشام”
وفي هذا السياق، قالت بريشان، رئيسة منظمة سارا لمناهضة العنف ضد المرأة في حلب،: “إن الأعوام الستة الماضية شكلت وضعًا خطيرًا وكارثيًا على المرأة في عفرين”. ولفتت الانتباه إلى الزيادة الملحوظة في الممارسات الممنهجة ضد النساء، والتي شملت القتل والاعتقال والاغتصاب والتعذيب. وفي ضوء هذا الوضع المأساوي، وجهت بريشان نداءً عاجلًا إلى المجتمع الدولي، مطالبة بالتدخل الفوري لوقف الانتهاكات التركية في المنطقة. وحذرت من خطورة استمرار هذه الممارسات في الأراضي السورية، مؤكدة أن التقاعس عن التحرك سيؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في المنطقة.
خطوات نحو العدالة
في ضوء هذا الوضع المأساوي، يقترح الخبراء والناشطون في مجال حقوق الإنسان مجموعة من الخطوات العاجلة للتصدي لهذه الأزمة. وتأتي على رأس هذه التوصيات ضرورة التدخل الدولي العاجل لوقف الانتهاكات في عفرين والشمال السوري عمومًا. كما يشددون على أهمية تفعيل آليات الحماية وتعزيز الأطر القانونية لحماية النساء، وذلك وفقًا للقوانين والمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
ومن الأهمية بمكان العمل على محاسبة مرتكبي هذه الانتهاكات وضمان عدم إفلاتهم من العقاب، وذلك من خلال تفعيل آليات العدالة الدولية والمحلية. كما يؤكد الخبراء على ضرورة توفير الدعم النفسي والاجتماعي للناجيات من العنف والاعتداءات، لمساعدتهن على تجاوز آثار ما تعرضن له والاندماج مجددًا في المجتمع.
ويشدد المختصون على أهمية تعزيز برامج التوعية والتثقيف حول حقوق المرأة، وذلك بهدف خلق بيئة داعمة للنساء ورافضة لكل أشكال العنف والتمييز ضدهن.
إن الانتهاكات الجسيمة التي تتعرض لها النساء في عفرين تمثل وصمة عار في جبين الإنسانية جمعاء. فهذه الجرائم لا تهدد فقط سلامة وكرامة النساء والفتيات، بل تقوض أسس المجتمع بأكمله وتهدد مستقبل المنطقة. إن الحاجة ملحة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لتحرك دولي حازم وفعال لوضع حد لهذه الممارسات الوحشية وضمان محاسبة مرتكبيها.
لينا العلي- حلب