منذ أن قضت قوات سوريا الديمقراطية، على تنظيم “داعش” جغرافياً في آذار/مارس 2019، تحوّلت مناطق الشمال السوري المحتلة تركياً إلى ملاذٍ آمن لقادة وعناصر التنظيم، حيث قتل واعتقل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وبمشاركة قسد العشرات من قادته وعناصره هناك.
وتأسس تنظيم “داعش” عام 2003 على يد القيادي في تنظيم “القاعدة” أبو مصعب الزرقاوي، وغيّر اسمه عدة مرات حتى استقر عام 2006 على اسم “دولة العراق الإسلامية” وتركز نشاطه حينها في المحافظات العراقية التي تضم السنّة.
ومع بدء الثورة السورية، أمر “أبو بكر البغدادي” أحد أتباعه بالانتقال إلى سوريا وتشكيل فرع للقاعدة تحت مسمى “جبهة النصرة” المعروفة حالياً باسم “هيئة تحرير الشام”، وحصل هذا التنظيم على الدعم المباشر من تركيا من خلال شراء النفط منه وتزويده بالسلاح ما سمح له بالسيطرة على بعض المناطق والتوغل ضمن المجموعات المسلحة الأخرى وتوسيع قاعدته، وبذلك ذاع صيت “جبهة النصرة”، وفي 9 نيسان/أبريل 2013 وبرسالة صوتية تم بثها عن طريق شبكة “شموخ الإسلام 56″، أعلن “البغدادي” عن دمج “جبهة النصرة” مع “دولة العراق الإسلامية” تحت مسمى “الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش” وبدأ بالسيطرة على مساحات شاسعة من العراق وسوريا.
وكانت البداية في تموز/ يوليو 2013 من مدينة تل أبيض السورية، حيث أرسلت تركيا الأسلحة عبر معبر تل أبيض لـ”داعش” كي يسيطر على المدينة ويؤمن طريق التزّود بالسلاح، وبعد ذلك وسّع “داعش” مناطق السيطرة إلى الرقة ودير الزور وصولاً إلى العراق، مستفيداً من الدعم التركي الذي كان يشتري منه النفط ويموّله بالسلاح.
ولكن مع بدء وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة ولاحقاً قوات سوريا الديمقراطية في سوريا والجيش العراقي والحشد الشعبي بتحرير المناطق السورية والعراقية منه، ادعت تركيا أنها تكافح الإرهاب وبدأت باستغلال داعش عام 2016 لاحتلال مدن جرابلس والباب وإعزاز في الشمال السوري، بعد فشل مخططها باحتلال المنطقة التي تراها جزءاً مما تسميه “الميثاق الملي” والذي يضم أجزاء من محافظات حلب والرقة والحسكة ودير الزور السورية وصولاً إلى إقليم كردستان العراق وكركوك.
المناطق المفضّلة لـ “داعش” في سوريا
وتعكس الوقائع على الأرض زيف ادعاءات تركيا، وأثبتت أن المناطق التي احتلتها تركيا في سوريا باتت ملاذاً آمناً للتنظيمات الإرهابية؛ كـ “داعش” أو أخواتها من “حرّاس الدين” أو “جند الأقصى” وغيرها، ومركزاً لتمويل نشاطات هذه التنظيمات، ولعل العملية الأخيرة للتحالف الدولي ضد “داعش”، والتي أعلن من خلالها عن مقتل القيادي الداعشي أبو ليث الجنابي، مسؤول التجهيز لدى التنظيم في منتصف شهر حزيران/ يونيو الفائت، بغارة جوية نفّذتها طائرة مسيّرة قرب مستوطنة “كويت الرحمة” في ريف عفرين التي تخضع للإدارة التركية فعلياً، خير مثال على ما تمّ ذكره آنفاً.
اقرأ/ي أيضاً: رحلة الموت.. شبكات التهريب والاختطاف على الحدود السورية اللبنانية
وتحولت المستوطنات التي بنتها تركيا في الشمال السوري وخصوصاً في عفرين بحجة إيواء النازحين، إلى ملاذ آمن لعناصر تنظيم “داعش” وأخواتها من التنظيمات الجهادية الأخرى، حيث تمنح الاستخبارات التركية بطاقات خاصة لعناصر التنظيم ليتحركوا بكل سهولة دون أن يخضعوا للتوقيف أو التفتيش، وكذلك فعلت في مدينة تل أبيض وناحية سلوك التابعة لها، والتي باتت من أكبر معاقل التنظيم في سوريا، بالإضافة إلى مدينة رأس العين، التي باتت معقلاً لعناصر التنظيم من حملة الجنسية العراقية، حيث تتواجد العشرات من عائلات التنظيم العراقية في هذه المدينة، ومنحتهم المجالس المحلية التي شكلتها تركيا هناك، بطاقات إقامة يتحركون فيها بكل حرية ويؤمنون التواصل بين خلايا التنظيم في المناطق القريبة.
مقتل واعتقال قيادات “داعش” في المناطق المحتلة تركياً
وعملية مقتل الجنابي في مناطق الشمال السوري المحتلة تركياً، لم تكن الأولى، ففي الـ 4 من نيسان عام 2023، كشفت القيادة المركزية الأميركية “سنتكوم” في بيان، مقتل القيادي البارز في داعش “خالد عيد أحمد الجبوري” شمال غرب سوريا الخاضعة لسيطرة تركيا و”هيئة تحرير الشام” وقالت إنه كان مسؤولاً عن التخطيط لهجمات في أوروبا.
وسبق ذلك إعلان القيادة المركزية الأميركية في الـ 12 من تموز عام 2022 مقتل زعيم التنظيم في سوريا ماهر العقال في غارة جويّة بالقرب من ناحية جنديرس التابعة لعفرين.
وكان ماهر العقال يعد من كبار زعماء التنظيم، وشارك مع أفراد عائلته في الهجوم على مدينة كوباني عام 2014، وانتقل إلى عفرين والباب بعد القضاء على التنظيم جغرافياً، ومن هناك بدأ بتنظيم وتدريب عناصر التنظيم وتوجيههم لتنفيذ الهجمات في المناطق السورية الأخرى.
وفي الـ 16 من حزيران 2022، ألقى التحالف الدولي القبض على أحد زعماء داعش ويدعى “هاني أحمد الكردي” الذي كان أميراً في الرقة، خلال عملية نفذها في مدينة جرابلس المحتلة تركياً.
كما أعلن التحالف الدولي في شهر شباط 2022 عن مقتل “أبو إبراهيم الهاشمي القرشي” الذي كان قد حلّ مكان أبو بكر البغدادي في زعامة التنظيم، خلال عمليةٍ على الحدود السورية – التركية وعلى بعد مئات الأمتار فقط من أحد القواعد التركية.
كما أن زعيم التنظيم “أبو بكر البغدادي” كان قد قُتل في الـ 26 من تشرين الأول عام 2019 في مدينة إدلب الخاضعة لسيطرة تركيا وعلى مقربة من حدودها أيضاً.
نشاط متزايد لـ “داعش” في سوريا والعراق
ومنذ بداية العام الجاري، كثّف “داعش” من هجماته في سوريا والعراق، وبحسب إحصائية كشفها المرصد السوري لحقوق الإنسان في وقت سابق من شهر تموز/يوليو، فإن داعش شنّ ما مجموعه 310 هجوماً على الأراضي السورية، منها 142 هجوماً في شمال وشرق سوريا أسفرت عن فقدان 79 شخصاً لحياتهم، و168 هجوماً في مناطق سيطرة السلطة بدمشق أسفرت عن فقدان 46 مدنياً لحياتهم و403 عناصر من قوات دمشق، إلى جانب مقتل 29 عنصراً من التنظيم المتطرف.
وتؤمن المواقع الاستراتيجية التي تسيطر عليها خلايا التنظيم ممرات خطيرة لها لتنفيذ هجماتها في كل الاتجاهات فخطرها يمتدُّ على منطقة واسعة من أرياف دير الزور والرقة وحمص، وجيباً باتجاه المناطق الشرقية من محافظة حلب، وممراً باتجاه مناطق شرقي محافظة إدلب، وهذا يعني القدرة على الوصول إلى معظم الطرقات الرئيسية الواصلة بين تلك الحواضر ونصب الكمائن على جنباتها. لكن رغم الموقع والتموضع الجغرافي المهم لعناصر هذا التنظيم الخطير تبقى هناك أسباب أخرى تمنحها ذاك الزخم الهجومي في تنفيذ هجماته الإرهابية، لعل في مقدمة تلك الأسباب وأهمها؛ تلك العلاقة التي لم تنقطع مع العديد من قيادات المجموعات المسلحة “المعارضة” في الشمال السوري (مناطق الاحتلال التركي)، الأمر الذي سمح دائماً بوجود منطقة تحرّكٍ واختباء، بل وتمويل، في الشمال المحتل.
وكانت القيادة المركزية الأميركية “سنتكوم”، قد أعلنت في 17 تموز/ يوليو أن تنظيم “داعش” ضاعف هجماته في العراق وسوريا منذ بداية العام الحالي، وأكدت أنه يحاول إعادة تشكيل نفسه.
وتشير الزيادة في الهجمات وفقاً لـ “سنتكوم” إلى أن التنظيم يحاول إعادة تشكيل نفسه بعد عدة سنوات من انخفاض قدراته.
ونفذت القيادة المركزية للولايات المتحدة مع شركائها من قوات الأمن العراقية وقوات سوريا الديمقراطية، 196 عملية لدحر “داعش” أسفرت عن مقتل 44 عنصراً من التنظيم واعتقال 166 آخرين في النصف الأول من عام 2024.
ففي العراق أسفرت 137 عملية مشتركة عن مقتل 30 عنصراً من “داعش” واعتقال 74 آخرين، وفي سوريا أسفرت 59 عملية تمت بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية وشركاء آخرين عن مقتل 14 عنصراً واعتقال 92 آخرين.
اقرأ/ي أيضاً: غضب شعبي يواجه قمعاً أمنياً في بلدات ريف دمشق
وقالت “سنتكوم” إن بين القتلى والمعتقلين “مسؤولون عن التخطيط للعمليات خارج سوريا والعراق، والتجنيد والتدريب وتهريب الأسلحة”.
ونبهت “سنتكوم” إلى خطر وجود حوالي 2500 عنصر من “داعش” طليقين في سوريا والعراق، وأشارت إلى أهمية “الجهود الدولية المستمرة لإعادة أكثر من 9000 من معتقلي “داعش” في مرافق الاحتجاز في سوريا، وإعادة تأهيل وإدماج أكثر من 43000 فرد وعائلة من مخيمي “الهول” و”روج”.
جهود الإدارة الذاتية الديمقراطية في مكافحة الإرهاب
الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا تدرك جيداً مدى خطورة وتعقيد ملف “داعش”، لذلك فهي أكّدت ولا تزال تؤكد وجوب تحمّل المجتمع الدولي مسؤولياته تجاه هذا الملف وإيجاد الحلول والتعامل الجَدّي معه، وتقديم المساندة والمساعدة التي من شأنها التقليل من المسؤولية الملقاة على عاتقها إزاء ملف محتجزي التنظيم وعائلاته في المخيمات، إضافة إلى مشاركة دولية في إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة من تلطخّت أيديهم بدماء السوريين.
وسبق أن أقدمت الإدارة الذاتية على العديد من الخطوات التي من شأنها التقليل من مخاطر ترك الأطفال مع أمهاتهم من نساء “داعش”، اللواتي لم يدّخرن جهداً في تلقين أطفالهن الفكر الداعشي المتطرف والاستمرار بالحرب حتى إعلان ما يسمّونه “بالدولة الإسلامية”، وهذا الأمر حذّرت منه جهاتٌ دولية مراراً لكن دون أي دعم أو مساندة للإدارة الذاتية في فتح مراكز تأهيل أو استعادة الدول لرعاياها التي قاتلت مع التنظيم.
إن تجاهل الوضع في سوريا عموماً والدعم التركي المقدم للتنظيم أو التباطؤ في معالجة مشاكلها لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة السورية وزيادة معاناة السكان، ويجب أن يكون هناك تعاون دولي جاد وسريع لإنقاذ هذه المنطقة- فيما يخص محاربة داعش وتقليص دور تركيا السلبي هناك- من براثن الإرهاب والفوضى، وضمان مستقبل أكثر أماناً واستقراراً للسوريين وللعالم بأسره.
وسيم اليوسف- إعلام مسد