مدينة حلب، التي كانت يوماً ما العاصمة الاقتصادية لسوريا، تشهد اليوم تدهوراً كبيراً في مستويات المعيشة والخدمات الأساسية. يعاني سكانها من ممارسات أذرع سلطة دمشق وواجهاتها التجارية، التي تبتكر أساليب مختلفة لنهب السوريين والاستيلاء على لقمة عيشهم. وفي ظل غياب المعالجات الفعّالة من قِبل السلطة وعدم الاستجابة الحقيقية للاحتياجات والمطالب الشعبية، تتفاقم معاناة الأهالي يوماً بعد يوم.
حواجز الفرقة الرابعة.. ابتزاز ممنهج
تُعد حواجز “الفرقة الرابعة” من أبرز مظاهر المعاناة في حلب. تتمركز هذه الحواجز ذائعة الصيت وسيئة السمعة على المدخل الرئيسي للمدينة (الإيكاردا)، إضافة لمداخل أحياء الشيخ مقصود والأشرفية. وتسعى جاهدة لمنع التجار من إدخال المواد الأساسية إلى هذه الأحياء، بهدف الحصول على ملايين الليرات السورية كإتاوات.
يروي عامر الأحمد (اسم مستعار)، أحد تجار الجملة، معاناته قائلاً: “نحن مجبرون على دفع الإتاوات والرشاوى لحواجز هذه الفرقة كي لا نخسر بضاعتنا. أمامها، تجد نفسك مرغماً على الدفع حتى يُسمح لك بالعبور وإكمال الطريق.” وفي السياق ذاته، يفيد بعض الصيادلة بأن مقدار الإتاوة المالية المفروضة على حزمة من الأدوية، والتي لا تزيد عن حمولة صندوق السيارة الخلفي “باكاج”، تبلغ نحو مليون و200 ألف ليرة سورية، لقاء دخولها إلى حيّي الشيخ مقصود والأشرفية.
اقرأ/ي أيضاً: حراك السويداء ومعادلة السلطة الجديدة.. صمود في وجه القمع
الابتزاز لا يقتصر على التجار فحسب، بل يمتد ليشمل المارة والزائرين. يكشف علي محمود عن محاولات ابتزازه وتضييق الخناق عليه بهدف الحصول على رشوة، لدرجة وصلت إلى تفتيش حقائبه الشخصية وسيارته وإيقافه لمدة طويلة. وقد أثار انتباهه وسخريته أن أولئك العناصر يسهّلون مرور السيارات التي يقدّم أصحابها رشاوى علنية.
شركة “صفة” استغلال تجاري مقنن
لم تتوقف المعاناة عند حد الحواجز والإتاوات، بل امتدت لتطال جيوب المواطنين عبر أساليب مختلفة. فإن كنت سورياً وتعيش في حلب، فحتماً لن تجد مكاناً تركن فيه سيارتك بشكل مجاني، في مكان سكنك أو عملك، إلا بشقّ الأنفس.
أواخر العام 2021، أعلنت شركة “كارتل” اتفاقها مع مجلس مدينة حلب لإدارة المواقف المأجورة في شوارع المدينة عبر مشروعٍ اسمه “صفة”. وتعود ملكية الشركة لمحافظ حمص السابق إياد غزال. القائمون على المشروع يتمتعون بسلطة نفوذ عالية تمكنهم من تقييد سيارات المدنيين، وتخريب طرقات المدينة، عبر نشر مواقفهم في أي مكان يريدونه،فضلا عن رفع أجور خدماتهم بواقع 200% بين ليلة وضحاهاوفرض غرامات مالية عالية بحق من يركن سيارته دون دفع رسوم الوقوف.
يقول المهندس المتقاعد سهيل مرجانة: “بيتي في الجميلية بشارع فرعي، ووفق روتين صباحي يومي أستيقظ لنقل سيارتي إلى مسافة بعيدة نظراً للرسوم الباهظة في حال بقائها أمام المنزل. وهو ما يعادل 18 ألف في اليوم وبمعدل شهري 540 ألف، وهو تعدٍّ على أملاكنا العامة.”
غموض العقود وتساؤلات قانونية
يبدو أن العقد المبرم بين مجلس مدينة حلب والشركة سابقة الذكر تم حجبه عن الكثيرين، حتى عن أعضاء المجلس، بحجة أنه تم التصديق عليه من قبل الجهات العليا ومُنع أحد من التعرف على تفاصيله. وتعليقاً على ذلك، قال مصطفى قلعة جي، الأمين العام لحزب التغيير والنهضة السوري، إن مضمون العقد المبرم يحمّل الشركة مهام تنظيم المرور وليس استغلال الفضاءات العامة.
اقرأ/ي أيضاً: نخب من الساحل السوري تقيّم طروحات مسد وآفاق الحل السياسي
ونوّه قلعة جي إلى أنه “إبان تصميم المخطط التنظيمي للمدينة، اقتُطعت الشوارع من حساب محاضر البناء الموجودة سابقاً، وبالتالي فإن هذه المساحات مدفوعة القيمة من قبل المواطن. وحتى إن كانت هذه المساحات مستملكة لمجلس المدينة، فهي مدفوعة القيمة أيضاً، وبالتالي يُمنع قانونياً تأجير مساحة لا تمتلكها الشركة.”
معاناة مستمرة وتساؤلات ملحّة
لأكثر من عقد من الزمن، لم تأبه سلطة دمشق بتطوير القطاع الخدمي أو تحسينه في مدينة حلب، بل أهملتها مما أدى إلى تفكك الخدمات في البلاد وتدهورها بشكل كبير. ونتيجة لهذه السياسات، يدفع المواطنون، وخاصة الفقراء منهم الذين باتوا يشكّلون نسبة كبيرة من السوريين، ضريبة الإهمال الحكومي، ليكونوا ضحايا لنظام واهن لم يعد قادراً على تزويدهم باحتياجاتهم من الخدمات الأساسية وسط انخفاضٍ ملحوظ لدخل الأُسر.
وفي ظل هذا الواقع المرير، تبقى التساؤلات ملحّة: إلى متى ستستمر هذه الممارسات؟ وأين دور الجهات المعنية في حماية حقوق المواطنين؟ وهل ستشهد حلب، يوماً ما، عودة لمجدها الاقتصادي السابق في ظل هذه الظروف القاسية؟ تبقى الإجابات غائبة، بينما يستمر المواطن السوري في المعاناة اليومية، أملاً في تغييرٍ قد يبدو بعيد المنال في الوقت الراهن.
لينا العلي- حلب