قد يبدو العنوان مستغرباً نظراً لمعرفة السوريين بعقلية السلطة وسياساتها الإقصائية. غير أن السلطة تروّج لمصطلح التشاركية عبر وسائل متعددة، مدّعية تفعيل هذا المبدأ مع السوريين لمناقشة قضاياهم وأزماتهم، خاصة في دمشق. لكن ما تحاول السلطة تسويقه يتناقض مع واقع السوريين، فالعاصمة تغرق في الأزمات وسط جمود الحل السياسي. كما أصبح معظم سكان دمشق عاجزين عن تأمين احتياجاتهم اليومية في ظل غياب السلطة عن معالجة أزماتهم. لذا يرى البعض أن أي تشاركية تطرحها السلطة ليست سوى محاولة لتخدير وعي السوريين. فالأجدر أن تُبنى التشاركية على صنع القرار السياسي للخروج من الواقع المرهق، إذ لا حلول لأزمات السوريين دون حلّ سياسي.
“لأجل دمشق نتحاور أم لأجل السلطة؟”
من الواضح أن السلطة الحاكمة في دمشق تحاول إظهار تبنيها لمبدأ الحوار للوصول إلى تطلعات السوريين. لكن المستغرب أن تعقد محافظة دمشق جلسات حوار حول مناطق محددة، في حين تغرق المدينة بأكملها في أزمات مستعصية. كما يثير الاستغراب اختيار عنوان “لأجل دمشق نتحاور” بدلاً من الحوار لأجل السوريين والبحث عن حلول سياسية، خاصة أن المتغيرات الإقليمية العنيفة تستدعي حواراً وطنياً سورياً يجنب البلاد تداعيات ما يجري في المنطقة.
ما دعت إليه محافظة دمشق في جلساتها الحوارية لا يتجاوز كونه جزءاً من توجهات السلطة القائمة على الإقصاء والتهميش. فقد اقتصرت الدعوة على سكان أحياء الشعلان والصالحية والحمراء وعرنوس وأبو رمانة. والمفارقة أن هذه المناطق تبدو وكأنها خارج نطاق أزمات السوريين، إذ تحظى باهتمام خاص من السلطة من حيث الكهرباء والخدمات المميزة، على خلاف باقي مناطق العاصمة. وبحسب المحافظة، جاءت الدعوة للنقاش مع أصحاب الفعاليات التجارية والاقتصادية في تلك المناطق، بهدف الاطلاع على رؤاهم حول المشروعات والخدمات، والعمل على تذليل الصعوبات في إطار ما أسمته اللامركزية الإدارية.
اقرأ/ي أيضاً: الحوار السوري السوري.. المسارات السياسية وتحديات الحل
هذا واقع وليس خيالاً، وهو حقيقة ما دعت إليه محافظة دمشق في المناطق المذكورة. وكأن دمشق تقتصر على هذه الأحياء فقط، وكأن سكان باقي أحياء دمشق ليسوا سوريين ولا يحقّ لهم المشاركة في أي حوار تجريه المحافظة. تكشف هذه الدعوة حقيقة يدركها السوريون جميعاً: أن السلطة تحاول ذر الرماد في العيون، مدّعية وجود تغييرات قادمة تعتمد التشاركية في صنع القرار. لكن كل ذلك يظل وسيلة لإظهار نواياها الحقيقية تجاه السوريين، ويبقى لأجل السلطة لا لأجل سورية وشعبها.
بصرف النظر عما تمت مناقشته في جلسات الحوار، التي لا تعدو كونها مشهداً يثير السخرية، ثمة واقع لا يمكن تجاهله: فالسلطة الحاكمة وضعت عراقيل كثيرة أمام العمل الاجتماعي والتشاركي. فبفعل سياساتها، توجد عقبات عديدة تمنع السوريين من المشاركة في صنع القرار، وذلك لأن السلطة الحالية استبدادية أحادية مطلقة، وليس من مصلحتها السماح بوجود مجتمع سياسي أو مدني متعدد وفاعل.
ولتوضيح ما سبق، يؤكد المحامي إسماعيل آ. أن دعوة المحافظة غير واضحة قانونياً، متسائلاً عن كيفية دعوة سكان مناطق محددة لا تعاني من أزمات، في حين تعاني مناطق أخرى من انقطاع الكهرباء لفترات طويلة وشح المياه. ويرى أن الأولى أن تدعو الدولة السورية لحل أزمات السوريين في مختلف مناطق دمشق، معتبراً الحديث عن التشاركية “نكتة سمجة” تحاول عبرها الدولة دغدغة مشاعر السوريين والإيحاء بأنها تهتم بمصالحهم.
ويضيف المحامي إسماعيل أن الشعب بالمفهوم السياسي-القانوني هو أحد أركان الدولة الحديثة، إلى جانب الإقليم والسلطة. لكن في الحالة السورية، يغيب مفهوم الدولة الديمقراطية الحديثة – دولة المواطنة المتساوية – مما يجعل من الصعب الحديث عن شعب بالمعنى السياسي-القانوني، خاصة أن الأنظمة الاستبدادية تحافظ قسراً على الوحدة الظاهرية للسكان.
مؤشرات خطيرة
يؤكد المحامي إسماعيل أن دعوة السلطة من خلال محافظة دمشق لهذا الحوار تُعد مؤشراً خطيراً، فالدولة أو النظام الحالي يقوم عن عمد وتصميم بفرز السوريين، مما يؤدي إلى تفرقة اجتماعية. وهناك مؤشرات تدل صراحة على أن النظام السوري يعمل – وقد عمل سابقاً – على فرض التمييز بين الأفراد والفئات العرقية والدينية والقبلية والمناطقية والطبقية للسكان. وهذا سيؤدي غالباً إلى تغليب قوى النبذ الاجتماعي على قوى الجذب، مما يفضي إلى مزيد من الانقسام الاجتماعي والانغلاق على الهويات الفئوية للسكان، وهو أمر في غاية الخطورة على صعيد مكونات الشعب بالمعنى الاجتماعي-الثقافي.
تشاركية في ظل سيطرة الحزب الواحد
في الواقع، تشهد الحالة السورية في ظل هذه السلطة العديد من التساؤلات والمفارقات، خاصة أن سياسة الحزب الواحد لا تزال قائمة، وعمليات الإقصاء والتهميش لا تزال فاعلة ومؤثرة. وعن هذا يتساءل الدكتور محمد ن.: “عن أي تشاركية يتحدثون؟”
اقرأ/ي أيضاً: الفاتورة الأمنية.. عبء جديد يثقل كاهل السوريين
ويضيف الدكتور محمد متسائلاً عن التشاركية التي تريد السلطة فرضها على السوريين: “إن دعوة المحافظة إلى حوار تشاركي لأجل دمشق، والتي اقتصرت على أهالي بعض الأحياء والفعاليات الاجتماعية والاقتصادية في تلك المناطق، تدعو للسخرية، فتلك الأحياء لا تعاني من أي أزمات”. ويرى أن السلطة لجأت إلى تلك الدعوة للإيحاء بوجود حوار وطني سوري يسعى إلى تذليل العقبات والصعوبات أمام السوريين. لكن الواقع يناقض ذلك تماماً. ويتساءل: “كيف يمكن لحوار تشاركي تديره السلطة أن يؤتي ثماره؟ وهل يُعقل أن تستجيب السلطة لمطالب المجتمعين إذا طالبوا برحيلها، أو على الأقل بحوار سياسي جاد وحقيقي للخروج من الأزمة؟” فالسوريون يدركون أن السلطة الحالية هي المسبب الرئيسي للأزمات، وهي جوهر معاناتهم، وبالتالي لن تكون هذه السلطة وحواراتها وسيلة للحل.
في الواقع، ما يحتاج إليه السوريون اليوم هو حوار وطني سوري-سوري للوصول إلى حل سياسي ينهي الأزمة. أما الحديث عن التشاركية التي تروّج لها السلطة فلا يتناسب مع حجم الأزمات التي يعاني منها السوريون، ولا مع تدني قدرتهم الشرائية. لذا، ينبغي أن يتناول أي حديث عن التشاركية مع السوريين الشأن السياسي وآلياته وسُبل الخروج من الأزمة، بدلاً من أن تلجأ السلطة إلى تخدير وعي السوريين بحوارات عقيمة.
وختاماً، من المهم القول إنه في ظل سيطرة الحزب الواحد ومنع تشكيل أي تيار سياسي يطرح حلولاً سياسية، يصعب الوصول إلى حل سياسي ينهي أزمات السوريين ومعاناتهم. وبذلك تصبح دعوة المحافظة إلى حوار “لأجل دمشق” مجرد مسرحية هزلية لا يُراد منها سوى إضحاك السوريين.
عمار المعتوق
دمشق