تشهد مناطق شمال وشرق سوريا منذ سنوات تجربة فريدة من نوعها، تجربة وضعت التعايش المشترك والشراكة السياسية بين مختلف المكونات كأحد أهم ركائزها. وسط ظروف استثنائية تداخلت فيها التحديات الأمنية، والسياسية، والاقتصادية، بُني مشروع الإدارة الذاتية ليكون نموذجاً ديمقراطياً تعددياً، يجمع بين العرب والكرد والسريان الآشوريين والتركمان والأرمن في بوتقة واحدة، تهدف إلى تحقيق الاستقرار والعدالة بعيدًا عن الانقسامات الطائفية والعرقية التي تهدد مستقبل سوريا ككل.
وعن ذلك يقول الباحث منير الحافظ، عضو اتحاد الكتاب العرب:
“في مجتمعنا الذي بدأ بتطبيق هذه المفاهيم في تجربة الإدارة الذاتية بشمال وشرق سوريا، ورغم تعددية المكونات عرقيًا وقوميًا ودينيًا وأيديولوجيًا، لم نشهد غلبة أو قهرًا في ممارسة الحريات. بل تحققت المواطنة وثقافة الانتماء لوطن ومجتمع واحد، ما يشكل أنموذجًا يُحتذى به في الوطن السوري.”
مواجهة الإرهاب وبناء الشراكة
منذ بداية الأزمة السورية، عانت المنطقة من الفوضى وتهديد الإرهاب، خاصة مع تمدد تنظيم “داعش” وسيطرته على مساحات واسعة من شمال وشرق البلاد، ما خلق حالة من التهجير والدمار وانعدام الأمن. في تلك المرحلة العصيبة، برزت إرادة مشتركة بين مختلف المكونات في مواجهة هذا الخطر الوجودي.
تأسيس قوات سوريا الديمقراطية (قسد) كان أحد التحولات المفصلية في تاريخ المنطقة، حيث تشكلت من تحالف عربي-كردي بالدرجة الأولى، مدعومًا بمشاركة فاعلة من السريان الآشوريين والتركمان والأرمن، لتصبح هذه القوات قوة عسكرية متماسكة نجحت في تحرير مدن وبلدات رئيسية مثل الرقة ودير الزور، معقل تنظيم “داعش”.
اقرأ/ي أيضاً: كوباني.. المدينة التي حمت الإنسانية من خطر “داعش” تتعرض الآن لتهديدات تركية
وحول هذا التحالف، أضاف سعد نوري كحيص، رئيس المركز الثقافي السابق في الرقة:
“بعد تحرير شمال وشرق سوريا من تنظيم داعش الإرهابي على يد قوات قسد، التي ضمت شهداء من كل المكونات، بدأت مرحلة بناء شاملة. وقف الأهالي مع الإدارة الذاتية يدًا بيد لإعادة بناء المدارس والجامعات والمشافي والمجالس لخدمة الشعوب، وهو ما يثبت نجاح هذه التجربة.”
الإدارة الذاتية والتعايش المشترك
إلى جانب الإنجازات العسكرية، جاءت الإدارة الذاتية كأداة سياسية وإدارية تستند إلى فلسفة التعايش المشترك والشراكة الفعلية بين المكونات. هذه التجربة كانت – وما تزال – تجربة جديدة على السياق السوري، لكنها أثبتت جدارتها في تحقيق الاستقرار الأمني والخدماتي في مناطق شاسعة كانت تعاني من الحرمان والتهميش لعقود.
وتابع منير الحافظ بالقول:
“تجربة الإدارة الذاتية تعاملت بروح الإخاء والعدالة والمساواة على مبادئ الديمقراطية بين مكونات مجتمعها. لم نشهد غلبة مكون على آخر، بل رأينا قيادة راقية ومنسجمة تشكل وحدة المواطنة القائمة على التعددية واللامركزية والديمقراطية.”
تفنيد المزاعم ومحاولات التشويه
في الآونة الأخيرة، ظهرت أصوات تشكك في صلابة التحالف بين مكونات شمال وشرق سوريا، خصوصاً بين العرب والكرد، مُدّعيةً أنه تحالف هش أو أنه يقوم على أسس غير متكافئة. هذه المزاعم، التي غالباً ما تأتي في سياق أجندات سياسية تحاول تقويض الاستقرار في المنطقة، تتجاهل الحقائق على الأرض.
وفي هذا السياق، قال سعد نوري كحيص:
“الحملات التشويهية وبثّ الشائعات الكاذبة، هي حرب إعلامية تستهدف ضرب الاستقرار.”
المشاركة العربية ضمن الإدارة الذاتية ليست مجرد تفاصيل شكلية، بل هي جزء أصيل من بنية القرار السياسي والإداري في هذه المناطق. فالمدن والبلدات ذات الغالبية العربية، كالرقة ودير الزور، تُدار من قبل أبنائها، بينما تشارك قيادات عربية بارزة في المؤسسات العسكرية والسياسية للإدارة الذاتية. هذه الوقائع تدحض ادعاءات “التهميش” التي تروّجها بعض الأطراف.
كما أن محاولات إذكاء الفتنة بين المكونات المختلفة تتجاهل تاريخاً طويلاً من التعاون، الذي أظهر قوته حين واجهت المنطقة تهديدات مشتركة. تجربة القضاء على داعش كانت المثال الأبرز على ذلك؛ إذ ما كان لهذه الحرب أن تنتهي بانتصار لولا التكامل بين أبناء المنطقة، عرباً وكرداً وسرياناً وباقي المكونات.
التحديات وسبل مواجهتها
رغم النجاحات التي حققتها الإدارة الذاتية بفضل الشراكة بين المكونات، فإن التحديات لا تزال حاضرة، سواء من حيث التهديدات الأمنية المستمرة أو محاولات التشويه الإعلامي والسياسي التي تستهدف ضرب وحدة الصف في شمال وشرق سوريا. هذه التحديات ليست مستعصية على الحل، لكنها تتطلب تكاتف جميع القوى الوطنية والمجتمعية في مواجهة حملات الفتنة وزرع الانقسام.
اقرأ/ي أيضاً: سوريا تحت مجهر “داعش” بعد سقوط نظام الأسد
وقال منير الحافظ في هذا الشأن:
“رغم التحديات السياسية والإعلامية والعنف، أبرزت تجربة الإدارة الذاتية روح التشاركية والعقدية الجمعية والحكم الجماعي، ما يعزز من قوة التحالف بين المكونات ويمنع أي غلبة لمكون على آخر.”
نموذج يحتذى به لمستقبل سوريا
إن التجربة التي تشهدها مناطق شمال وشرق سوريا ليست مجرد حل مؤقت فرضته الظروف الأمنية والسياسية، بل هي مشروع سياسي يتجاوز حدود هذه المناطق، حيث يمكن أن يكون نموذجاً لبناء سوريا المستقبلية.
فالتنوع القومي والديني الذي يميز شمال وشرق سوريا يشبه في تركيبته نسيج سوريا ككل، ما يعني أن نجاح تجربة التعايش المشترك هناك يفتح الباب أمام تبني نظام سياسي لامركزي، يُحقق تطلعات جميع المكونات، ويمنع عودة الاستبداد أو احتكار السلطة من قبل أي طرف.
واختتم سعد نوري كحيص حديثه بالقول:
“التماسك بين العشائر والإدارة الذاتية قائم على الحوار السوري-السوري وكسب الشرعية. ومع نجاح هذه التجربة، يمكننا تحقيق مستقبل مشرق وديمقراطي لسوريا.”
رغم التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه مناطق شمال وشرق سوريا، تظل تجربة التعايش المشترك والتحالف بين المكونات، وعلى رأسها العرب والكرد، مثالاً حيّاً على قدرة السوريين بمختلف أطيافهم على تجاوز المِحن وبناء مستقبل مشترك. إن محاولات التشويه التي تستهدف هذا النموذج لن تُغيّر من حقيقة أن هذه التجربة، القائمة على الشراكة والعدالة، تُشكل بارقة أمل لسوريا موحدة وديمقراطية تُحترم فيها حقوق الجميع.