في خضم المخاض السياسي الذي تمرّ به سوريا، تستمر موجة رفض الإعلان الدستوري الذي أقرته سلطة دمشق من قبل أطياف ومكونات مجتمعية ترى فيه تكريساً للإقصاء، لا تجسيداً للتعددية التي لطالما كانت سمة أساسية في النسيج السوري.
وفي هذا السياق، عبّر محمد مسلم، أحد مواطني مدينة الرقة، عن موقف حاد تجاه الإعلان الدستوري، قائلاً: “هذا الدستور لا يمثلنا؛ إنه صُمّم وفق رؤية فئة معينة، ونحن نشعر بأننا خارج الحسابات تماماً. لا يعكس همومنا، ولا يعبّر عن ثقافتنا أو تطلعاتنا. وكأن من كتبه يرى أن الدولة حكرٌ عليه، ونحن لسنا جزءاً من هذا العقد السياسي الجديد”.
تصريحات مسلم تعكس شعوراً متزايداً بالاغتراب السياسي لدى العديد من السوريين خصوصاً أن البلاد تتميز بتداخل القوميات والثقافات. ويخشى كثيرون أن يُعاد إنتاج المركزية السياسية نفسها التي ساهمت في تفجّر الصراع السوري عام 2011، هذه المرة في قالب دستوري جديد.
اقرأ/ي أيضاً: حوار سياسي خاص – «تماسك» وتحولات المشهد السوري بعد سقوط النظام
ومن جانبه، أشار محمد علي إلى أن الإعلان “عجز عن ملامسة جوهر التحول الديمقراطي”. وأضاف: “تجاهل قضية التعدد اللغوي، وعدم معالجة حساسية اسم ‘الجمهورية العربية السورية’، يثير القلق. فالتعدد القومي والديني في سوريا واقع لا يمكن تجاوزه. كما أن غياب ضمانات صريحة لحقوق المرأة والتنوع الثقافي يُضعف من صدقية النّص الدستوري كوثيقة عقد اجتماعي شامل”.
أما إسماعيل إسماعيل، فكان أكثر صراحة، قائلاً: “الدستور الجديد مرفوض من قبل الجميع، لأنه لا يعكس التعدد الهائل في المجتمع السوري. دروز، علويون، كرد، عرب، آشوريون، إيزيديون، يهود… كل هؤلاء لا يجدون أنفسهم في بنية النظام أو تمثيله”.
ولفت إلى غياب التوازن الطائفي والعرقي في توزيع الحقائب الوزارية قائلاً: “ككردي سني، من حقي أن أرى تمثيلاً حقيقياً لأبناء قومي في وزارات سيادية، لا أن تبقى حكراً على طائفة واحدة”.
أزمة تمثيل أم فشل في صياغة عقد اجتماعي؟
ويرى مراقبون أن الأزمة تتجاوز مجرد اعتراضات سياسية عابرة، لتلامس جوهر الخلل في بنية الدولة السورية ما بعد الصراع. فالمسألة لم تعد فقط في ما كُتب في الدستور، بل في من كتب، وفي أي سياق، وبأية نوايا؟ هل هو مشروع لاحتواء الجميع وبناء دولة المواطنة؟ أم محاولة لإعادة فرض الهيمنة بأدوات جديدة؟
اقرأ/ي أيضاً: مدينة حمص تترقب المسارات السياسية القادمة في سوريا
وفي ظل هذه المواقف، تبرز تساؤلات حول مستقبل العملية الدستورية برمّتها، لا سيما مع غياب توافق وطني حقيقي، وغياب الضمانات الدولية الملزمة لتنفيذ أي مخرجات دستورية. ويتخوّف البعض من أن تتحول الوثيقة إلى مجرد نصّ قانوني شكلي، بعيد عن نبض الواقع وتحديات ما بعد الحرب.
نحو دستور تشاركي… أم إعلان انقسام جديد؟
وتكشف التصريحات الأخيرة عن مأزق مزدوج: فقدان الثقة في مركزية القرار، وانعدام الإيمان بجدوى الإعلان الدستوري بشكله الحالي. وهو ما يفرض ضرورة التفكير في آليات جديدة لكتابة دستور تشاركي حقيقي، تُشارك فيه كل المكونات، لا بوصفها “أقليات” تُرضى ببعض المواد، بل كأطراف أصيلة في صناعة مستقبل سوريا.
وحتى يتحقق ذلك، يبدو أن مسار “التوافق الوطني الجامع” لا يزال طويلاً، ولا يمكن اختزاله في اجتماعات مغلقة أو نصوص موضوعة خلف الأبواب.