بعد سقوط النظام الذي حكم سوريا لعقود، وانتهاء مرحلة من الحكم الاستبدادي، انعقد “مؤتمر الحوار الوطني” في دمشق يومي 24 و25 شباط 2025، في محاولة لإرساء شرعية انتقالية في واحدة من أكثر المراحل تعقيدًا في تاريخ سوريا الحديث. غير أن المؤتمر، الذي جاء في سياق انقسامات سياسية وجغرافية حادة، وانهيار اقتصادي غير مسبوق، واجه موجة انتقادات واسعة بسبب غياب التحضير المتأنّي، وهيمنة طرف واحد على مجرياته، وإقصاء مكونات رئيسية من المشهد، ما أثار تساؤلات جدية حول قدرته على تحقيق الاستقرار المطلوب.
مؤتمر متعجل أم منصة للجدل؟
جاء المؤتمر في أعقاب سقوط النظام السابق الذي حكم سوريا لعقود، وسط تحولات كبرى أعادت تشكيل الخارطة السياسية في البلاد. لكن غياب التمثيل الحقيقي لمختلف المكونات السورية، خصوصاً من مناطق شمال وشرق سوريا، وعدم وجود ضمانات دولية لدعم مخرجاته، جعلاه أشبه بمنصة للجدل أكثر منه جسراً نحو الحل.
وقد أثار استبعاد تيارات سياسية بارزة تساؤلات حول مدى شرعية المؤتمر وقدرته على عكس التنوع السوري. وفي هذا السياق، وصف شاهين آرام، عضو اتحاد كتاب العرب، المؤتمر بأنه “مهرجان سياسي” يفتقد إلى أبسط شروط الحوار الجاد.
وأشار آرام إلى أن اللجنة المنظمة، التي ترأسها حسن الدغيم، ضمت شخصيات ذات توجه فكري موحد، مما أفقد الحدث قيمته الحقيقية، إضافة إلى استبعاد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، وكذلك ممثلي السويداء، بحجة رفضهم تسليم السلاح، رغم أنهم جزء أصيل من الخارطة السورية.
اقرأ/ي أيضاً: حمص اليوم .. بين محاولات التعافي والتحديات المستمرة
كما انتقد آرام المخرجات، واصفاً إياها بـ”الجاهزة والركيكة”، مشيراً إلى أنها لم تخرج عن نطاق الشعارات المعهودة، مثل إدانة التوغل الإسرائيلي وتشكيل لجنة دستورية، دون التطرق إلى قضايا جوهرية كالأمن المعيشي أو الفصل التعسفي للموظفين. كما اعتبر أن مفهوم “العزل السياسي” المطروح في المؤتمر لا يخدم المصالحة الوطنية، بل يعزز الإقصاء والانقسام.
وكشف آرام أن المؤتمر انعقد على عجالة بهدف إصدار مخرجات تسبق زيارة مسؤول سوري إلى الأردن والقمة العربية، في محاولة لـ”تبييض صفحة السلطة”، معتبراً أن غياب الحوار الحقيقي مع القوى المختلفة سياسياً وثقافياً يعمّق الأزمة بدلًا من حلها، ويُبقي البلاد في حالة من عدم الاستقرار.
إقصاء يعزز الانقسام
من جانبه، وصف الكاتب محمد عيسى المؤتمر بأنه “عملية مُفبركة” نظمتها “حكومة أمر واقع”، مؤكداً أن مساره كان محسومًا منذ البداية، خصوصاً أنه جاء استكمالاً لما وصفه بـ”مؤتمر إعلان النصر” السابق.
وأشار عيسى إلى أن فكرة عقد مؤتمر وطني كانت تتطلب تشكيل لجنة تحضيرية مؤهلة تمثل كافة المكونات العرقية والدينية والسياسية، إلا أن اللجنة التحضيرية افتقدت لأي تمثيل كردي أو علوي أو درزي، مما جعل المؤتمر أداةً لإضفاء شرعية شكلية على مرحلة انتقالية أحادية الجانب. وخلص إلى أن نتائج المؤتمر لا تؤسس إلا لمزيد من الصراعات، محذرًا من أن إعادة إنتاج الأزمة بهذه الطريقة قد تؤدي إلى حرب أهلية جديدة وتقسيم محتمل لسوريا.
اقرأ/ي أيضاً: نساء سوريا ومواجهة التحديات… من التهميش إلى تحقيق العدالة
أما رجا جميل الدامقسي، الأمين العام لحزب الانتماء السوري الديمقراطي، فقد وصف المؤتمر بأنه “إقصائي وطائفي”، مؤكدًا أنه لا يستحق أن يُطلق عليه مؤتمر “وطني” نظراً لاستبعاده شرائح واسعة من السوريين.
وتساءل الدامقسي: “كيف يمكن لمؤتمر أن يكون وطنياً وهو يستبعد جزءاً كبيراً من المكونات السورية؟”، مشيراً إلى أن الحضور اقتصر على 600 شخصية تم اختيارهم بشكل فردي، بينما غابت عنه الأحزاب السياسية والفعاليات المدنية وممثلو المكونات الكردية والعلوية والدرزية.
وأكد أن الحل لا يكمن في مؤتمرات من هذا النوع، بل في تشكيل “جبهة ديمقراطية وطنية” تضم كافة الأطياف السياسية والاجتماعية، محذرًا من أن المؤتمر لم يكن سوى محاولة لترسيخ دولة قائمة على أسس طائفية، قائلاً: “السوريون يستحقون أكثر من مهزلة تُعمّق انقساماتهم”.
حوار شامل أو العودة إلى الهاوية
رغم بعض الآمال التي رافقت انعقاد المؤتمر، لا يزال السوريون يتطلعون إلى حوار حقيقي يحقق انتقالًا ديمقراطياً وعدالة شاملة. لكن غياب التعددية وضمانات التنفيذ الدولية جعل المؤتمر استمراراً لنهج سلطوي بأسماء جديدة، في وقت تتفاقم فيه الأزمات المعيشية والأمنية، وسط غياب رؤية وطنية جامعة للحل، ما يزيد من احتمالات انهيار أي مسار انتقالي.
فرصة ضائعة وإنذار بمستقبل أكثر قتامة
كان يمكن للمؤتمر أن يشكل نقطة تحول في مسار الحل السياسي السوري، لكنه انتهى إلى إعادة إنتاج أزمات الحكم المركزي عبر هيمنة طرف واحد وإقصاء قوى رئيسية. ويحذر الخبراء من أن الفشل في بناء نظام سياسي شامل قد يدفع البلاد مجددًا نحو العنف، خاصة مع تنامي خطر الجماعات الإرهابية واستغلال القوى الإقليمية لحالة الفراغ الأمني.
إن مستقبل سوريا اليوم مرهون بوجود إرادة سياسية جادة تعترف بالتعددية كشرط أساسي للوحدة الوطنية، وبوجود دعم دولي فاعل يدفع باتجاه حوار حقيقي يشمل الجميع، بدلًا من مبادرات تكرّس الانقسام وتحوّل الحلم السوري في الاستقرار إلى كابوس متجدد.