في قلب إدلب السورية، تتصاعد أصوات لم تعد قادرة على كتم غضبها. شوارع المدينة التي طالما شهدت صراعات وتحولات، تضج اليوم بحناجر تهتف ضد تسلط هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً). على أرصفة طالما عرفت خطوات الثوار والنازحين، تصطف اليوم صفوف من المتظاهرين، وجوههم تحمل ملامح الإصرار والتعب في آن واحد. إنها لوحة حية لمدينة ترفض الاستسلام، رغم كل ما مرت به من محن.
“لم نعد نحتمل”. بهذه الكلمات البسيطة، لخص أحمد، وهو شاب في الثلاثينيات من عمره، سبب خروجه للتظاهر. عيناه تحملان نظرة ثاقبة، تعكس سنوات من الألم والأمل. “خرجنا ضد النظام لننال حريتنا، فهل نسكت اليوم عمن يصادرها باسم الدين والثورة؟” يضيف أحمد وهو يلوح بيده نحو لافتة كُتب عليها “الحرية للجميع”. حوله، تتردد هتافات تطالب بإسقاط حكم الهيئة، في مشهد يذكر بأيام الثورة الأولى.
أحمد ليس وحده. فاطمة، معلمة وأم لثلاثة أطفال، تقف بجواره. ملامحها تحمل مزيجاً من القوة والقلق. “نريد لأطفالنا مستقبلاً يليق بتضحياتنا. لا نريدهم أن يكبروا في ظل حكم عسكري آخر، مهما كانت مسمياته”. تتوقف للحظة، تنظر إلى صورة ابنها الأكبر على هاتفها، ثم تضيف: “لقد تعبنا من الخوف، من القمع، من الحياة تحت سلطة لا تعرف سوى لغة القوة. أطفالنا يستحقون أفضل من هذا”.
اقرأ/ي أيضاً: عفرين السورية تفقد 21 مليون شجرة على يد الاحتلال التركي
هذه الأصوات تعكس مزاجاً شعبياً متنامياً في إدلب. مزاج يرفض الخضوع لسلطة هيئة تحرير الشام، التي سيطرت على المنطقة، وفرضت نظاماً صارماً على السكان. في كل زاوية من زوايا المدينة، يمكنك أن تلمس هذا التوتر المتصاعد. من الأسواق المزدحمة إلى المقاهي الهادئة، تدور همسات الاستياء والغضب.
محمد، ناشط حقوقي يعمل سراً في إدلب، يجلس في ركن قصي من أحد المقاهي. صوته خافت، لكن كلماته حادة: “الهيئة تدعي أنها تحمي الثورة، لكنها في الواقع تقمع حريات الناس. الاعتقالات التعسفية، والقيود على حرية التعبير، والتدخل في تفاصيل الحياة اليومية للناس، كلها ممارسات أججت الغضب الشعبي”. يتوقف للحظة، ينظر حوله بحذر، ثم يضيف: “الناس هنا لم يعودوا يخافون كما كانوا. هناك شيء تغير، شرارة أشعلت في نفوسهم من جديد”.
لكن الاحتجاجات لم تمر دون ثمن. فقد واجهت هيئة تحرير الشام المتظاهرين بقبضة حديدية. خالد، محامٍ يوثق انتهاكات حقوق الإنسان في المنطقة، يروي بمرارة: “شهدنا حالات اعتقال واسعة، واستخداماً مفرطاً للقوة لتفريق المظاهرات”. يفتح حاسوبه المحمول، يعرض صوراً وفيديوهات لمتظاهرين يتعرضون للضرب والاعتقال. “الهيئة تستخدم أساليب النظام نفسها التي ثرنا ضدها. إنه تاريخ يعيد نفسه بشكل مأساوي”.
رغم القمع، يبدو أن الاحتجاجات آخذة في التوسع. سمر، ناشطة نسوية، ترى في ذلك بارقة أمل. تقف على سطح أحد المباني، تراقب المظاهرة التي تمر في الشارع أدناه. عيناها تلمعان بالدموع والفخر: “للمرة الأولى منذ سنوات، نرى الناس يكسرون حاجز الخوف. هذا قد يكون بداية لتغيير حقيقي”. هذا ليس فقط عن الحرية السياسية، إنه عن حرية المرأة أيضاً، عن المساواة، عن مجتمع أفضل للجميع”.
الوضع في إدلب يعكس تعقيدات المشهد السوري ككل، حيث تتشابك المصالح الإقليمية والدولية على حساب تطلعات الشعب السوري. تركيا، من خلال دورها في محور أستانة، عملت بشكل فعال على تثبيت سيطرة هيئة تحرير الشام في المنطقة. هذا النهج يمتد إلى مناطق شمال غرب سوريا عموماً، حيث تظهر السياسات التركية تركيزاً واضحاً على تحقيق مصالحها الاستراتيجية، بعيداً عن اهتمامات وتطلعات السوريين.
يقول أبو محمد، وهو أب فقد ابنه نتيجة القصف : “لقد خدعتنا تركيا. وعدونا بالحرية والدعم، لكنهم في الحقيقة يتاجرون بدمائنا ومعاناتنا. ابني استشهد وهو يحلم بسوريا حرة، لكن ما نراه اليوم هو استبدال ظالم بظالم آخر برعاية تركية. إنهم لا يهتمون بنا، كل ما يهمهم هو مصالحهم ونفوذهم. نحن مجرد أوراق في لعبتهم السياسية”.
فبدلاً من دعم الحريات والحكم المدني الذي يطالب به المتظاهرون، تسعى أنقرة إلى الحفاظ على توازنات القوى الحالية، مما يضمن استمرار نفوذها واحتلالها للمنطقة، حتى لو كان ذلك على حساب آمال السوريين في الحرية والكرامة.
لكن المتظاهرين لديهم رؤية مختلفة. عمر، أحد منظمي الاحتجاجات، يقف على أنقاض مبنى دمرته الحرب. خلفه، تمتد إدلب بأزقتها وأحيائها المتضررة. يقول بصوت مليء بالعزم: “لا نريد أن نكون ورقة مساومة بيد أي قوة خارجية. نريد إدارة شؤوننا بأنفسنا، ونريد حكماً مدنياً يحترم حقوقنا وحرياتنا”. يشير إلى المدينة من حوله: “انظر إلى هذا الدمار. لقد عانينا كثيراً. ألا يحق لنا أن نقرر مصيرنا بأنفسنا؟”
اقرأ/ي أيضاً: سياسات “تحرير الشام” الاقتصادية تخنق سكان إدلب
مع استمرار الاحتجاجات، يبقى مستقبل إدلب غير واضح المعالم. في الشوارع، تستمر المظاهرات. في المكاتب المغلقة، تجري المفاوضات والمناورات السياسية. هل ستؤدي هذه الحركة الاحتجاجية إلى تغيير جذري في المشهد السياسي للمحافظة؟ أم ستنجح هيئة تحرير الشام في قمعها؟
ما هو واضح، هو أن سكان إدلب، رغم سنوات الحرب والمعاناة، ما زالوا يتمسكون بحلم الحرية الذي أشعل شرارة ثورتهم قبل أكثر من عقد. وكما قالت فاطمة في ختام حديثها، وهي تنظر إلى الأفق حيث تغرب الشمس على مدينة متعبة لكنها صامدة: “قد نكون تعبنا، لكننا لم نستسلم. سنستمر في النضال حتى نحقق الحرية والكرامة التي ضحينا من أجلها. هذه ليست نهاية القصة، بل بدايتها”.
في إدلب اليوم، تتجلى قصة شعب يرفض الاستسلام لليأس. إنها قصة عن الأمل في وجه القمع، عن الحلم بغد أفضل وسط واقع مرير. وبينما تستمر الاحتجاجات، تبقى أعين العالم مصوبة على هذه المدينة الصغيرة، التي قد تكون شرارة لتغيير أكبر في مستقبل سوريا.
بلال الأحمد- إدلب