لا يخفى على متابعي الشأن السوري أن حراك السويداء واستمراريته قد وضع السلطة في دمشق في موقف سياسي مُحرج، وأوقعها في حيرة عميقة حيال التعامل مع حراكٍ بات في منظورها تهديداً سياسياً خطيراً سيكون له تداعيات وانعكاسات جوهرية على عمق الأزمة في سوريا. ونظراً لما تتمتع به السويداء من خصوصية مذهبية واجتماعية متميزة، فإن السلطة تدرك تماماً أن أي عمل عسكري ضد المحافظة الثائرة سيكون له تداعيات مختلفة شكلاً ومضموناً عن كل التدخلات العسكرية التي خاضتها ضد المناطق التي انتفضت عليها، لتجد نفسها في ظل هذا الواقع المعقّد أمام تحديات سياسية كبيرة، خاصة في ظل المتغيرات الإقليمية المتسارعة واستمرار الحرب في غزة وجنوب لبنان، والخشية المتزايدة من امتدادها إلى الجنوب السوري. وهذا ما يعني أن السلطة تُجاهد بغية إجهاض الحراك في السويداء بشتّى السُبل، لكنها لن تستطيع ذلك في ظل ما يحدث على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية.
وفي سياق متصل، لم تشكل حالة الارتباك الإقليمي عائقاً لاستمرار الحراك في السويداء، حيث لا تزال المظاهرات المطالبة برحيل السلطة وتطبيق القرار الأممي 2254 مستمرة بزخم متصاعد، متحدية اتساع مروحة التوترات في المنطقة. وعلى الرغم من التموضعات الجديدة التي شهدها الإقليم بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وارتفاع وتيرة الضربات الإسرائيلية ضد إيران وأذرعها في سوريا، واتخاذ الأردن خطوات حاسمة في مسار مكافحة “الكبتاغون” عبر استهدافه عسكرياً عدّة مواقع في ريف السويداء، بالإضافة إلى استمرار نشاط الميليشيات في تهريب المخدرات عبر الحدود، فإن كل هذه العوامل مجتمعة أعطت زخماً إضافياً للحراك الشعبي، وهذا ما دفع السلطة في جانب آخر للجوء إلى عدة محاولات بغية إحداث اختراق في الحراك السّلمي الذي تشهده السويداء.
اقرأ/ي أيضاً: السوريون وتفاعلهم مع الأدوار الإقليمية والدولية.. رؤى نحو حلٍّ سياسي
وفي حديث مفصّل مع خطار أبو أكرم، الناشط السياسي وأحد منظمي الحراك في السويداء، يؤكد أن السمة الأبرز التي تميّز حراك السويداء هي سلميته الراسخة التي أثبتت أنها عامل ضغط فعّال على النظام السوري. هذه السلمية دفعت السلطة إلى محاولات متكررة لاختراق النسيج المجتمعي المحلي وزرع بذور الفتنة بين أبنائه، لكن الوحدة المجتمعية والتماسك الشعبي في السويداء نجحا في إجهاض جميع تلك المحاولات. حيث أن استمرار الحراك الثوري في عموم محافظة السويداء شكّل في عناوينه معضلة صعبة الحل، فالسلطة لا تستطيع اتهام أهالي السويداء بأنهم إرهابيون أو يدعمون الإرهاب، كما أنها لا تستطيع اللجوء إلى أي حلٍّ عسكري أو أمني ضد حِراك سلمي، لأن هذا الأمر سيضعها في مواجهة إقليمية ودولية.
ويكشف أبو أكرم عن ثلاثة سيناريوهات رئيسية اعتمدتها السلطة للتعامل مع الحراك. تجسد السيناريو الأول في محاولة فرض الحل الأمني من خلال تعيين اللواء المتقاعد أكرم محمد محافظاً جديداً للسويداء في شهر أيار/ مايو الماضي، تبعه إقامة حواجز أمنية في مواقع استراتيجية، خاصة قرب دوار العنقود، بحجة حماية المدينة من تهديدات “داعش” ومكافحة تهريب المخدرات. وكالعادة، برّرت السلطة وضع الحاجز بأنه إجراء للحفاظ على أمن السويداء وأهلها من هجمات “داعش” ومنع عمليات تهريب “الكبتاغون”، لكن جميع السوريين يدركون أن “داعش” هي صنيعة السلطة، وأنها هي راعي المهربين في عموم سوريا.
أما السيناريو الثاني فتمثل في محاولة إقحام الجيش السوري في المشهد الأمني داخل المدينة، تحت ذريعة حماية المقرات الأمنية والحزبية. لكن رغم انتشار الجيش داخل السويداء بشكل جزئي، فإن المجتمع المحلي واللجنة السياسية المنبثقة عن الحراك نجحا في إجهاض مخطط السلطة من خلال القيام بجولات شعبية على نقاط الجيش وتقديم المياه والورود للجنود، مؤكدين أن هذا الجيش هو لحماية السوريين وليس لتنفيذ مخطط السلطة في القتل والتدمير. وبهذه الخطوة الذكية، تمكن الحراك من سحب الذريعة العسكرية التي كانت السلطة ستستخدمها في حال استخدام القوة ضد نقاط الجيش.
اقرأ/ي أيضاً: 7 سنوات على التحرير.. الرقة تستعيد بريقها
وفي السيناريو الثالث، عمدت السلطة إلى تقليص الخدمات الأساسية من كهرباء وماء، في محاولة للضغط على المواطنين. إلا أن المجتمع المحلي تحرّك بسرعة لمواجهة هذا التحدي من خلال تشكيل لجان أهلية لمراقبة عمل مؤسسات السلطة في الكهرباء والماء وغيرها من الخدمات، الأمر الذي انعكس إيجاباً على طريقة توزيع الخدمات في عموم المحافظة. حتى أن هناك لجنة من أهالي السويداء تتواجد في مختلف مؤسسات السلطة وتراقب عملها، وأي تقصير في مسألة الخدمات يواجه ببدائل سريعة وفعّالة.
واقعياً، لا يخفى على أهالي السويداء أن السلطة لا تزال تسعى جاهدة لفرض وجودها الأمني في المحافظة، محاولة إحداث شرخ في النسيج المجتمعي قد يؤدي إلى اضطرابات أمنية داخلية. وقد تستغل السلطة مثل هذه الاضطرابات – إن حدثت – للجوء إلى الخيار العسكري تحت ذريعة إعادة هيبة الدولة وفرض الأمن والاستقرار، إلا أن هذا السيناريو يبدو بعيد المنال في الوقت الراهن نظراً لوعي أهالي السويداء وتماسكهم.
يبقى رفض السلطة لمطالب السوريين المشروعة واستمرارها في تجنب الحل السياسي وتطبيق القرار 2254، ورفضها لأي مبادرة وطنية تنهي معاناة السوريين، دليلاً قاطعاً على تحمّلها المسؤولية الكاملة عما قد يحدث في سوريا جرّاء التطورات الإقليمية المتسارعة. ويظل حراك السويداء، إلى جانب ما يجري في مناطق الإدارة الذاتية في الشمال السوري، والمبادرات السياسية المطروحة، الضامن الحقيقي لسورية موحدة تعددية ديمقراطية، في حين تمثّل سياسات السلطة الخطر الأكبر على مستقبل سوريا وشعبها. لذا، فإن أي تأخير في الحل السياسي يُعد بمثابة تهديد لعموم السوريين وعموم الجغرافية السورية، وهذا ما يجب أن تدركه السلطة قبل فوات الأوان.
عمر الصحناوي- السويداء