بقلم: رياض درار
إعادة بناء العملية السياسية في سوريا بعد سقوط نظام الاسد ستكون مهمة بالغة التعقيد، بالنظر إلى التحديات الداخلية والإقليمية والدولية التي تحيط بها. لكنها ليست مستحيلة، بل ممكنة إذا ما وُضعت خارطة طريق واقعية وشاملة، تستند إلى معايير العدالة والتمثيل والتوازن، وتتمتع بدعم وطني ودولي.
في المرحلة الانتقالية، يُفترض أن يجري تشكيل حكومة انتقالية تتسم بالتنوع، تضم ممثلين عن المعارضة السياسية، والمجتمع المدني، وشخصيات مستقلة ذات كفاءة إدارية، على أن تكون العملية برعاية أممية لضمان الحياد والشفافية. يترافق ذلك مع وقف شامل لإطلاق النار، تراقبه آليات دولية فعالة، تمهيداً لتهيئة بيئة آمنة للمواطنين، وتوفير أجواء سياسية وميدانية مناسبة لانطلاق العملية الدستورية.
يجب أن يُعتمد دستور جديد يُقرّ من خلال جمعية تأسيسية أو لجنة متوافق عليها، ويكفل الحريات العامة وحقوق المواطنة، ويفصل بين السلطات، ويضمن دولة القانون، على أن يُطرح للاستفتاء الشعبي بإشراف دولي لضمان نزاهته.
إصلاح المؤسسة الأمنية والعسكرية يُعد شرطًا أساسيًا لنجاح أي عملية تحول ديمقراطي. فلا بد من إعادة هيكلة الجيش ليكون جيشًا وطنيًا، غير طائفي، وغير تابع لحزب أو جهة، يعمل باحترافية ويحترم حدود السياسة، ويمكن دمج الفصائل المعتدلة ضمن مؤسسات الدولة بما يعزز السلم الأهلي.
ولا يمكن تجاوز مرحلة العدالة الانتقالية، التي يجب أن تقوم على مبدأ المحاسبة من دون انتقام، وتعتمد آليات قانونية مستقلة لمحاسبة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية، بالتوازي مع لجان مصالحة وتعويض الضحايا، لضمان عدم تكرار الانتهاكات وتعزيز ثقافة التسامح والعدالة.
تُعد الانتخابات الحرة والنزيهة إحدى الركائز الأساسية لأي انتقال ديمقراطي. لا بد من تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية، بإشراف دولي، ترتكز إلى الدستور الجديد، وتضمن حرية الإعلام والتعبير، وتشجع على المشاركة السياسية الواسعة من مختلف المكونات.
إعادة الإعمار والتنمية تُشكّل بدورها تحديًا مركزيًا في مرحلة ما بعد الحرب. ويتطلب هذا اعتماد خطة دولية متكاملة، تموّلها الدول المانحة، وتقوم على رؤية اقتصادية شفافة خالية من الفساد والمحسوبية، تضمن تحقيق العدالة في توزيع الموارد والتنمية.
اقرأ/ي أيضاً: الثورة السورية في ذكراها الرابعة عشرة
يُفترض أن تُمنح العملية السياسية ضمانات دولية واضحة، تمنع التدخلات الخارجية، وتحترم سيادة سوريا، وتدعم مؤسسات الدولة الجديدة. ومن المهم البناء على القرار 2254 الذي لا يزال، رغم الجمود، الإطار السياسي الدولي الوحيد المتوافق عليه، والمدعوم من روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وعدد من الدول الإقليمية، وهو يشمل وقف إطلاق النار، وحكومة انتقالية، ودستور جديد، وانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة.
مع ذلك، تواجه عملية تفعيل القرار 2254 تحديات خطيرة، أبرزها أن النظام الحالي يتبنى رؤية لبناء دولة طائفية بمرجعية دينية سنيّة، وهو ما يُقوّض مبادئ التعددية والمواطنة. كما أن المعارضة السياسية تعاني من ضعف البنية والشرعية الشعبية، وتفتقر إلى أدوات ضغط فعّالة تتيح فرض أجندة وطنية شاملة. يُضاف إلى ذلك تراجع الاهتمام الدولي بالملف السوري لصالح أولويات أخرى مثل الحرب في أوكرانيا والمنافسة الاقتصادية مع الصين.
ورغم هذه العقبات، يمكن إحياء القرار 2254 إذا ما توفرت شروط جديدة، منها تغيّر موازين القوى على الأرض، وتوحّد المعارضة حول رؤية سياسية واضحة وجدية، وربط أي عملية إعادة إعمار بتقدم ملموس في المسار السياسي. وقد تبنّى مؤتمر جدة الأخير هذا القرار، لكنه يحتاج إلى مقاربة جديدة تقنع القوى الفاعلة بأهمية العودة إلى عملية سياسية واقعية، والتخلي عن المسارات الأحادية التي اعتمدها النظام، مثل مسار الحوار الوطني المرفوض شعبياً، والإعلان الدستوري الذي يؤسس لحكم استبدادي بلبوس ديني.
للدفع بالعملية السياسية نحو مسار أكثر شمولًا وتمثيلًا للواقع السوري، يجب الاعتراف بالتغييرات المجتمعية والديمغرافية التي طرأت خلال السنوات الماضية. المطلوب هو الخروج من عقلية الماضي والاستبداد، وإشراك جميع المكونات في صياغة مستقبل البلاد، عبر انفتاح سياسي حقيقي وإرادة صادقة لإنتاج حلول ديمقراطية مستدامة.
في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى عقد مؤتمر وطني جامع يشمل جميع مكونات المجتمع السوري، من عرب وكرد وسريان آشوريين وتركمان وعلويين ودروز وإسماعيليين ومسيحيين، مع ضمان مشاركة القوى الفاعلة ميدانياً، ورفض الإقصاء أو هيمنة طرف واحد على العملية السياسية. كما ينبغي صياغة رؤية سورية جديدة تستند إلى عقد اجتماعي يعترف بالتعددية القومية والدينية والسياسية، ويؤسس لمواطنة متساوية بين الجميع.
يجب أن تُناقش طبيعة الدولة الجديدة، وعلاقتها بين المركز والأطراف، بما يحقق توازناً فعّالاً بين المركزية واللامركزية، ويحول دون استبداد السلطة أو تفكك الدولة. كما ينبغي تمثيل القوى الفاعلة الجديدة، وفي مقدمتها الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، إلى جانب المجالس المحلية والفصائل المعتدلة، بما يضمن التمثيل الحقيقي لمختلف القوى الاجتماعية والسياسية.
لا بد أيضاً من إشراك المجتمع المدني والشباب والنساء في العملية السياسية، بما يتناسب مع أدوارهم وتضحياتهم خلال الصراع، وإنشاء هيئة مستقلة لحفظ الذاكرة الوطنية، وتحقيق العدالة من دون انتقام أو تصفية حسابات.
ويتطلب نجاح العملية السياسية تحقيق توازن بين الداخل والخارج، ورفض احتكار القرار الوطني من قبل أي طرف، وضمان تمثيل اللاجئين والمهجرين السوريين في مختلف مراحل العملية.
اقرأ/ي أيضاً: ثورة سوريا.. تحديات مستمرة ومسار طويل نحو التغيير
أما فيما يتعلق بدور مجلس سوريا الديمقراطية، فقد قدّم المجلس رؤية متوازنة ومتقدمة طيلة سنوات الصراع، وساهم في تأسيس مشروع الإدارة الذاتية التي استطاعت حماية مناطق شمال وشرق سوريا من ويلات الحرب بعد هزيمة تنظيم داعش. ومنذ تأسيسه عام 2015، انخرط المجلس في جهود لتوحيد قوى المعارضة الديمقراطية، والمشاركة في المؤتمرات والتحالفات الوطنية، وما زال يسعى إلى تحقيق المشروع الوطني الديمقراطي رغم الصعوبات والتحديات.
تتمثل أبرز هذه التحديات في الرفض التركي المتواصل، ما يتطلب مقاربة سياسية واقعية تعالج ملف حزب العمال الكردستاني، وتعيد تفعيل مبادرة أوجلان للتحول نحو العمل السياسي ووقف العنف في تركيا. كما يجب فتح قنوات تواصل مع الدول العربية لدعم العملية السياسية وتمكين المكونات الوطنية المختلفة، وبناء علاقات مع أطراف المعارضة السياسية السورية كافة.
يسعى المجلس إلى توسيع مشاركته في مسارات الحل السياسي من خلال الانفتاح على الحوار السوري–السوري، وتوطيد العلاقات مع المجالس المحلية والفصائل المعتدلة، وتعزيز مشاركة المكونات العربية في مؤسسات الإدارة الذاتية، وخصوصاً في دير الزور والرقة. كما يعمل على الحضور في المحافل الدولية عبر واجهات تمثيلية مثل “تماسك” و”المسار”، ويؤكد دوماً أن اللامركزية لا تعني الانفصال، بل هي نموذج للحكم المحلي المنسجم مع التطلعات الديمقراطية والقدرة على التنمية والإدارة الذاتية.
وبعد الاتفاق الذي جرى بين قائد قسد السيد مظلوم عبدي والرئيس أحمد الشرع في العاشر من آذار، فإن من الضروري إنهاء سياسة الإقصاء بحق مجلس سوريا الديمقراطية ومكونات شمال وشرق سوريا، والانخراط في حوار داخلي حقيقي مع سائر القوى الوطنية، بما يتيح بناء تحالفات داخلية مرنة، والمساهمة الإيجابية في تأسيس سوريا موحدة وديمقراطية، قادرة على النهوض من جديد.