في ظل ما يشهده الملف السوري من عبث سياسي مزمن وتناقضات يصعب على المتابع فهمها، فإن جُل ما يحدث على المستوى السياسي في مناطق سيطرة السلطة لا يعدو كونه مسرحية هزلية تسخر من السوريين وأزماتهم. ضمن هذا السياق تأتي انتخابات مجلس الشعب وما يُسمى بعمليات “الاستئناس الحزبي”، والشعب يعيش أحلك مراحل مأساته.
تدّعي السلطة أن الانتخابات المزمع إجراؤها ديمقراطية في بلد لا يستطيع فيه أي سوري في مناطق سيطرتها أن ينبس ببنت شفة ليعبر عن رأيه الحقيقي، فسيف السلطة بالمرصاد.
صرّحت السلطة سابقاً بأن “عمليات الاستئناس الحزبي تُسهم في تقليص دور الفساد الانتخابي أو الولاءات الضيقة وغير الموضوعية”. طُبقت هذه العملية لأول مرة في انتخابات “مجلس الشعب” عام 2020، والتي علق عليها رئيس السلطة بالقول إنها “تجربة نجحت في خلق حراك وحوارات ليس على المستوى الحزبي فقط بل على المستوى الوطني العام”.
اقرأ/ي أيضاً: جرائم وانتهاكات بالجملة في عفرين… لا أعين ترى ولا آذان تسمع
عقب انتهاء الاجتماع المركزي لحزب البعث، والذي جرى بموجبه تغيير بعض القيادات الحزبية، استبشر السوريون خيراً. لكن كعادتها، فإن السلطة تبيع الأوهام، وهذا ما أكدته نتائج الاستئناس الحزبي، الذي أفرز ذات النتائج، وبذلك سيكون المجلس القادم بعثياً خالصاً، يتحكم في القرارات والخيارات.
الاستئناس الحزبي والمشهد المُضحك
يدرك السوريون أن عملية الاستئناس الحزبي، وإن بدت في ظاهرها عملية ديمقراطية، إلا أن القرار النهائي للبت بأسماء المرشحين يبقى بيد القيادة الحزبية ولمن يدفع أكثر. هذا ما أكده عضو مجلس الشعب السابق (ب.ن)، الذي تم إبعاده عن السباق الانتخابي وعن عمليات الاستئناس التي جرت مؤخراً، تحت ذريعة واهية تتعلق بمخالفة القوانين الحزبية وعدم تنمية وعيه العقائدي.
العضو السابق يؤكد أن “عمليات الاستئناس الحزبي التي جرت والقوائم التي أفرزتها ما هي إلا مسرحية ساخرة”. ويضيف أن محاولة تصدير مشهد الانتخابات البرلمانية في سوريا والإيحاء بوجود مشهد ديمقراطي لإقناع الدول الإقليمية والدولية بوجود مسار سياسي هو أمر غير واقعي.
ضغوط أمنية وحزبية
من خلال رصد بعض الآراء التي واكبت عمليات الاستئناس الحزبي، فإن غالبيتها تقاطعت في مسار واحد يؤكد أن هناك ضغوطاً مورست بقوة من قبل قيادات حزبية ورؤساء أفرع أمنية لاختيار أعضاء بعينهم. أحد المشاركين في عمليات الاستئناس الحزبي، وهو عضو عامل في الحزب، أكد وجود هذه الضغوط، مشيراً إلى أن حالات رشوة وصلت إلى مبالغ طائلة.
تأكيد للمؤكد
إن الاستئناس الحزبي في “حزب البعث” ليس إلا مسرحية مزيفة. فرغم المظهر الخارجي للمشاركة الشعبية داخل صفوف الحزب، إلا أن قرار القيادة الحزبية ورؤساء الأجهزة الأمنية، هو الذي يحدد المرشحين النهائيين، بغض النظر عن نتائج الانتخابات الداخلية.
اقرأ/ي أيضاً: التجويع والترهيب.. قصة درعا بعد “التسوية”
في ضوء ما سبق، يتضح جلياً أن مسرحية “الاستئناس الحزبي” وانتخابات مجلس الشعب في سوريا ليست سوى محاولة بائسة لإضفاء شرعية زائفة على نظام حكم استبدادي. فالسلطة الحاكمة في دمشق تستمر في التلاعب بمصائر السوريين وحقوقهم السياسية الأساسية، متجاهلة معاناتهم وتطلعاتهم نحو الحرية والديمقراطية الحقيقية.
إن هذه الممارسات لا تعكس فقط أزمة النظام السياسي في سوريا، بل تؤكد أيضاً على عمق الفجوة بين السلطة والشعب. فبينما يعاني المواطنون السوريون من أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، تستمر السلطة في تقديم عروض سياسية هزلية لا تمت للواقع بصلة.
لذا، فإن الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى لإصلاح سياسي حقيقي وشامل في سوريا، يضمن مشاركة جميع أطياف المجتمع السوري في صنع القرار السياسي. هذا الإصلاح يجب أن يبدأ بإنهاء سيطرة الحزب الواحد، وإطلاق حريات التعبير والتنظيم السياسي، وضمان نزاهة وشفافية العملية الانتخابية.
إن مستقبل سوريا ورفاهية شعبها يعتمدان على قُدرة البلاد على تجاوز هذه المسرحيات السياسية الفارغة، والانتقال نحو نظام حكم يحترم إرادة الشعب ويستجيب لتطلعاته. وحتى ذلك الحين، ستظل مثل هذه الممارسات شاهداً على عجز السلطة عن مواكبة تطلعات الشعب وتحديات العصر.
عمار المعتوق- دمشق