بقلم: ليلى قرمان
شهد القرن العشرين تحولات كبيرة في تاريخ نضال الحركات النسوية المطالبة بحقوق المرأة، وتطورت هذه الحركات التي شكلت ركيزة أساسية والعمود الفقري لحركات التحرر العالمية. وكانت للحركة النسوية في سوريا نصيبا بارزا في النضال الثوري والاستقلال الوطني ضد المستعمرين والمحتلين لتحقيق الاستقلال والحرية، أمثال زينب الغزاوي التي استشهدت في معركة ميسلون، ونازك العابد التي ذهبت متنكرة في زيّ رجل، ورشيدة الزيبق التي امتطت الجواد وساهمت في أكثر من معركة، واعتُقلت أكثر من مرّة، وكذلك أيضاً فاطمة بنت كبكب، وأم سعيد عواد وغيرهم من المناضلات. فساهمت هذه الحركات في تقدم الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والتوعوية للبلد، لتنهض بالمرأة القادرة على المطالبة بحقوقها المشروعة. ومع توسّع تجربتها النضالية وتعمقها، أثمرت في النهاية عن تمتعها بحق الانتخاب والترشح، وذلك في فترة ما بعد الاستقلال.
ومع تصاعد وتيرة نضال المرأة السورية، أصبحت قضيتها من القضايا المحورية والأساسية، وبذلك أحدثت نقلة نوعية في مسيرتها النضالية من خلال الارتقاء الى المطالبة بالمساواة الجندرية، والقضاء على أشكال التمييز الجنسوي. ولكن باستيلاء نظام البعث على الحكم، وتمكين قبضتها الأمنية على مؤسسات الدولة، عملت على قمع الحراك الجماهيري والنسوي والحريات السياسية سواء بالقوة العسكرية أو من خلال تشويه صور ة المرأة، مما أدخل سوريا في نفق الاستبداد والطغيان، محدثا بذلك تراجعا في الحراك التحرري المنفتح بما في ذلك الحراك النسوي، فألحق ضررا كبيرا بالمكاسب والمنجزات التي حققتها المرأة خلال مسيرتها النضالية ، ولن نبالغ اذا قلنا إن الحركة النسوية كانت وما زالت أكثر المتضررين بالنظام القمعي الحاكم، وهذا ما نلاحظه من خلال ما تعرضت له الحياة الاجتماعية في سوريا من التصحر الشديد.
إقرا أيضًا: من دمشق.. السوريون يشيدون بمبادرة الإدارة الذاتية
فأصبحت المرأة عرضة لكافة ممارسات وأساليب الترهيب والتهميش من مناحي الحياة السياسية والاجتماعية، فمن جهة سحقت تحت وطأة النظام الاستبدادي من خلال القوانين التمييزية في الدستور السوري (قانون الأحوال الشخصية، وقانون العقوبات، وقانون الجنسية)، ومن جهة أخرى الأعراف والتقاليد التي شكّلت عائقا وتحديا كبيرا أمام مشاركة المرأة في الحياة العامة.
هذا التمييز خلق نظرة مجتمعية قاصرة الى المرأة، بأنها دون الرجل، وأدى ذلك إلى تجريد المرأة من حقوقها السياسية، وبدأت ملامح المرأة السورية تتشوه وتختفي مع دخول سوريا مرحلة جديدة متسمة بغياب الحقوق والحريات على مدى خمسة عقود من الحكم البعثي.
كل هذه الأساليب القمعية والاستبدادية وغياب الديمقراطية، أدى الى حالة غليان مجتمعي رافض لها، وبالتزامن مع ثورات الربيع العربي، انتفض الشعب السوري ليكون له نصيبه من الحراك الجماهيري التّواق إلى الحرية، والذي شكل نقطة تحول في تاريخ البلاد، ولتصبح الاحتجاجات وسيلة السوريين للتعبير عن مطالبهم في الحرية والكرامة والديمقراطية، والتي مهدت الطريق للمرأة لتكون هي ثورة بذاتها ولذاتها. فكانت السّباقة في الصفوف الأمامية في الاحتجاجات الشعبية معبرة عن صوتها دون خوف أو كلل أو ملل، بالرغم من تعرضها للقمع والاعتقالات التعسفية والتعذيب الجسدي والنفسي داخل سجون النظام، وكنّ هدفا للرصاص الحي الذي ارداهنّ جريحات أو شهيدات، ولكنها لم تستسلم، ولم تتراجع عن موقفها الرافض للظلم والاستبداد والمتطلع للحرية، كونها مؤمنة بأنها شريكة أساسية وفعّالة في الثورة، ولا وجود للثورة من دونها، فسعت بكل طاقتها من أجل تغيير القدر الذي فرض عليها، وتغيير القوانين والممارسات والأفكار التي سحقت كيانها وأهدرت كرامتها، وكسرت حاجز الصمت والخوف الذي بناه النظام الاستبدادي على مدى عقود من الزمن، لتمارس دورها الحقيقي والطبيعي ضمن المجتمع. وكان لها ذلك بأن نسجت أحلامها وتطلعاتها مع اندلاع شرارة الثورة السورية كونها جزأ لا يتجزأ منها.
رغم الظروف الصعبة، لعبت المرأة دورا حيويا في دعم الثورة وقيادتها، فسارعت الى تنظيم ذاتها، وتوحيد صفوفها، وبناء المؤسسات الخاصة بها والتي تعنى بشؤون المرأة في كل مجالات الحياة، وبكل عزم وإصرار قدمت الغالي والنفيس من أجل نصرة الثورة السورية.
في خضم هذا الحراك الجماهيري السلمي الذي شمل كافة أطياف المجتمع السوري والذي بدأت شرارته في آذار/مارس 2011، لم يقف النظام الحاكم مكتوف اليدين، وإنّما سارع الى صد هذا الحراك وقمعه منذ بدايته، ولم تنجو الأصوات النسوية المطالبة بالتغيير والتحول الديمقراطي أيضا من آلة النظام القمعية، هذه الآلة التي عملت على إنهاء الحالة السلمية للحراك الشعبي وتحويلها إلى التسليح. وما زاد الطين بلّة انحراف الثورة عن مسارها المطالب بالديمقراطية والحرية لعدة أسباب، منها انتهاج نهج العسكرة، وعدم وجود قيادة حكيمة قادرة على توجيه العملية الثورية، وغياب الرؤية الصحيحة للواقع السوري، والأهم عدم الاعتماد على القوى الذاتية المجتمعية الموجودة، مما أتاح الطريق للتدخلات الخارجية في القضية السورية، فتحولت الى أزمة معقّدة جلبت الويلات والحرمان للشعب السوري، وبسيطرة الفصائل المسلحة (المتطرفة) المرتبطة بأجندات خارجية والتيارات الأصولية المتطرفة على قوى المعارضة الهشة التي خيبت آمال السوريين واستثمرت دمائه خدمة مصالحهم الضيقة، حيث بدأت مرحلة جديدة أكثر دمويةً وإجراما بحق الشعب المسالم، والتي ألقت بظلالها مباشرة على المرأة أيضا، فعانت مرارة النزوح، واللجوء، والتهجير القسري، وزادت وتيرة الاعتقالات، والعنف الجنسي ضدها، لتعاني أسوأ أنماط الانتهاكات والممارسات المنافية لمعايير حقوق الإنسان.
هذا الوضع الجديد الذي طرأ على الساحة، فرض ظروفا قاسية يصعب التأقلم معها، كونها تتجاوز قدرات المرأة المادية والمعنوية، كما ان التغيير الحاصل في الأدوار النمطية للمرأة لتتحمل مسؤولياتها كامرأة وتتحمل أيضا مسؤوليات الرجل (كاب او اخ او زوج في ظل غيابهم معظم الأحيان كتبعات للحروب نتيجة اعتقال او اغتيال او كضحايا حرب) أيضا أثقل كاهلها في ظل ظروف الصراع والحرب، في خضم كل هذه الظروف لم تتخلى المرأة عن دورها، فكان من أولوياتها التواجد في مراكز صنع القرار وقيادة عملية التغيير والبناء الديمقراطي في سوريا.
فشاركت المرأة في الاجسام السياسية والهيئات والأطر السياسية المعارضة، وكذلك شاركت في اللجان والهيئات التي شكلها المجتمع الدولي في إطار إيجاد حل للازمة السورية. وعملت كذلك في كافة مفاصل الحياة في مناطق النفوذ الثلاث، كونها تدرك جيدا في حال تقاعسها عن دورها أو غيابها لأي سبب كان، سيترتب على ذلك دفعها لضرائب باهظة في المستقبل، من قبيل عدم حصولها على استحقاقها الحقوقي والقانوني المحمي دستوريا، وبالتالي ستذهب كل جهودها وتضحياتها سدى.
تواجد المرأة أمر لابدّ منه في كافة التشكيلات السياسية والمجتمعية والعسكرية لحل الأزمة، فكان تواجدها في هيئة التفاوض واللجنة الدستورية والمجلس الاستشاري النسائي (أنشئ من قبل مكتب المبعوث الخاص في يناير 2016 بالشراكة مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة لكن للأسف هذا المجلس الاستشاري ينحصر دوره بأنه هيئة استشارية لا تشارك في مباحثات السلام، وليس ثمة ضمانة بان التوصيات الصادرة عنه ستوضع موضع التطبيق.
أمام التوجه الدولي نحو تفعيل دور المرأة ومشاركتها في الحياة العامة والسياسية، عملت بعض أطراف المعارضة على الاستفادة من هذا التوجه لتضفي صبغة الديمقراطية على صورتها من جهة، ومن جهة للاستحواذ على اهتمام النشطاء الحقوقيين واستثمار جهودهم في تحقيق اجنداتهم. فعملت هذه الأطراف المعارضة على التواجد الصوري للمرأة ضمن تشكيلاتها، وتأطير عملها وفق سياساتها لتعاني المرأة مرة ثانية التهميش والاقصاء الممنهج في هذه المناطق، خصوصا أن أغلب المسيطرين في هذه المناطق ذوي التفكير الاصولي والسلفي والتي تنظر الى المرأة كمتاع.
خلال هذا الصراع الذي طال أمده في سوريا والذي أودى بحياة عدد لا يحصى من الأرواح وشرد الملايين داخل وخارج البلاد طيلة 12 عاما، والتي تعثرت خلالها المساعي الدولية والمسارات السياسية للحل السلمي، كونها تفتقد بالدرجة الأولى وجود دور نسوي حقيقي ووطني، وهذا الغياب كان محط اهتمام السوريين والسوريات والفاعلين في المجتمع المدني، حيث انه يعتبر موضوعا جدليا يستحوذ اهتمام الناشطين في مجال الديمقراطية وحقوق الانسان منذ الأيام الأولى للثورة، لأنها داعية أساسية في مجال الامن والأمان وبناء السلام. فلا يمكن ان تبنى الحلول وتندلع الثورات انطلاقا من المفاهيم والمعتقدات الخاطئة والمشوهة، ولا يمكن للمرأة ان تحصل على حقوقها من خلال أدوار نمطية ومحدودة، ولا يمكن ان يكتب النجاح لأي عمل في ظل تغييب المرأة، فمقياس تمتع المرأة بحريتها هو المقياس الحقيقي لمدى تحرر الشعوب وترسيخ مفاهيم الديمقراطية في المجتمعات، لذلك تغيير المفاهيم المناهضة لوجود المرأة الفعلي هي مهمة أساسية للجميع من اجل إيجاد الحل وتقدم المجتمع السوري.
يمكن القول أن تمثيل المرأة في الأطر السياسية تفاوتت زمنيا منذ بداية الثورة إلى الآن، من جسم سياسي إلى آخر، وأن كل الاجسام السياسية واللجان والهيئات التي تدعي مراعاتها لحقوق المرأة وتمثيلها لا تراعي نسبة الكوتا العالمية للمرأة 30%. ما نلتمسه في واقع الأمر، أن هذا التمثيل الناقص للمرأة في أغلب الأطر السياسية يعبر عن غياب المساوة الجندرية، والتي لا تعبر عن المشاركة الفعلية والحقيقية للمرأة في مراكز صناعة القرار على مستوى سوريا، وبالتالي ترسّخ العنف والإقصاء ضد المرأة، ولا يؤدي الى أي عملية تغيير وبناء، وإنما تحصرها في قوالب قسرية، وهذا يعود دائما إلى الصورة النمطية التي تشك بقدرات المرأة على لعب دورها السياسي وهيمنة الذكورية وسيطرته على منافذ وأفق الحياة، وكل هذا حال دون مشاركتها الحقيقة في العملية السياسية، وتوجيهها نحو العمل الاجتماعي والمدني والإنساني والاغاثي فقط.
انطلاقا من ذلك كانت للمرأة تجربة مختلفة في مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، فخلال العشر السنوات الماضية حققت المرأة مستوى عالٍ من التمثيل الحقيقي لها، من خلال مشاركتها الجادة والفعالة في مراكز صنع القرار، ومع إقرار مبدأ كوتا الجنس 50%، ومبدأ الرئاسة المشتركة في مراكز القرار، أصبحت هذه المبادئ نقاط تحول لتصحيح المفاهيم المغلوطة عن الوجود الحقيقي لما تستطيع المرأة القيام به، لذا أكد مجلس سوريا الديمقراطية أيضا ضمن مبادئه الأساسية على اعتبار حرية المرأة هي أساس وضمانة لكافة الحريات، ومشاركة المرأة في صياغة دستور جديد في سوريا تعتبر من القضايا الأساسية التي لا يمكن التحييد عنها، فأكد مجلس سوريا الديمقراطية على مشاركة المرأة في كامل العملية السياسية كشرط أساسي لنجاح العملية التفاوضية وضمان حقوقها دستوريا.
وعلينا أن نكون منصفين، فما عانته المرأة من تغييب وتهميش وإقصاء في بعض المناطق، لا نلقي لومه على الظروف الخارجية فقط المتعلقة بذهنية الرجل، والتي تجسدت في سياسة بعض أطراف المعارضة، وانما جزء من هذا الغياب للمرأة تتحمله المرأة نفسها، رغم عدم قبولها للواقع المفروض وبذلها الكثير إلا أن جهودها لم تثمر بالتغيير المطلوب، فالبعض من النساء آثرن الظهور كمستقلات، وكون أغلبهن من خلفيات سياسية مختلفة، لم يتح الطريق لظهور صوت نسوي قوي كافي لتلبية ما تتوق اليه المرأة والمجتمع، وانما كان سببا في تبعثر جهود نون النسوة.
إقرا أيضًا: شمال غرب سوريا.. فلتان أمني وتغلغل عناصر “داعش” في صفوف “الجيش الوطني”
هذا الواقع المرير يحتم على النساء الابتعاد عن التمثيل الصوري المحدود للمرأة في المحافل الدولية واللجان والاجسام المعارضة، وانما يلزم المرأة ان لا ترضى الا بالتمثيل الحقيقي لها، وتغيير الصورة النمطية المحددة لها، وفق ما يتطلع اليه السوريين والسوريات بعين الترقب والامل لدور المرأة في العملية السياسية، ويتطلب ذلك من المرأة التواصل مع كافة الفاعلين في القضية السورية للوصول الى الحل السياسي. لان فعالية المرأة هي الضمانة لتحقيق تغيير سياسي واجتماعي ينقل سوريا من حكم استبدادي ذكوري احادي الى حكم تعددي ديمقراطي يحقق العدالة والمساواة للجميع دون تمييز في مجتمع متوازن، وتحقق تكامل الأدوار في الحياة السياسية والعامة.
وإيمانا بالقدرات التي تملكها المرأة من كفاءة وتجربة، وما تتمتع به من وعي نسوي وسياسي، وما هيأته الثورة من ظروف وشروط مناسبة من انفتاح ووعي سياسي، اكسب المرأة توجها فكريا وذاتيا جديدا من اجل مواصلة النضال والكفاح والمشاركة برسم خارطة طريق، ووضع برامج لتوحيد الجهود النسوية، عبر اشراك حقيقي للنساء دون اقصاء من قبل أي طرف، لأن إقصاء وجمود دور المرأة في سوريا، هو إقصاء وإجهاض للدور الحقيقي للمرأة، وبالتالي هي بمثابة إجهاض العملية السياسية المتكاملة في سوريا، ويفترض أن تكون هذه المشاركة وفق الكوتا العالمية للمرأة على الأقل. لذلك من الضروري إدماج المرأة في رسم استراتيجيات الحل السياسي للبلد لتحقيق السلام المجتمعي لكافة الأطياف.
بذلت المراة الكثير ومازالت تبذل، وحان الوقت لكي تأخذ مكانتها الطبيعية في المجتمع، وتسعى به نحو الحرية والكرامة وتحقيق الديمقراطية المجتمعية، فالتاريخ لن يغفر أي تخاذل أو تهاون من المرأة في هذه المرحلة الحساسة، فالحقوق تؤخذ ولا تعطى، لذا لابد من الاستمرار في درب النضال، فالمرأة السورية سجّلت محطات بارزة بنضالها وكفاحها عبر التاريخ ونحن اليوم نقتدي بها وعلينا أن نكون كنساء سوريات منارة للنساء قاطبة الآن ومستقبلا، وبذلك يمكن القول أنّنا نشهد “ربيع المرأة” قائما وزاهيا.
ليلى قرمان
نائبة الرئاسة المشتركة وعضو الهيئة التنفيذية في مجلس سوريا الديمقراطية.